ﻟﻠﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟﻠﺒﻨﺎﻧﻲ ﺟﻮﺯﻳﻒ ﺣﺮﺏ ﻣﻘﻄﻊ ﺷﻌﺮي قصيرُ, بفلسفة عميقة ﺍلدلالة ﻳﻘﻮﻝ :
(( ﻓﺘﺤﺖ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﺪﺍﺭ ﻧﺎﻓﺬﺓ
ﻻ ﻛﻲ ﺃﺭﻯ ﻣﺎ ﻗﺪ ﺗﺮﻯ ﻋﻴﻨﻲ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺮﻓﺔ
ﺑﻞ ﻛﻲ ﺃﺭﻯ ﺍﻟﻐﺮﻓﺔ )) .
في لوحة ( نافذة على الحديقة ) من العمل الدرامي (( مرايا )) ...
يدخل ( أبو رضا ) المستشفى آتيا من الخارج ..وهو في حالة ضجر من انقلاب حالـِه من سعة الخارج إلى ضيق الداخل ..
وهذا المعنى الأول للصورة , فأصبح يتوق لرؤية الخارج فاستعان بصديقه( سعيد) المجاور له على السرير ليحكي له ماذا يرى من الشرفة ؟
فذهب صديقه سعيد يحكي له عالما من خياله .. بأن هناك في الأسفل حديقة كبيرة , وجميلة جدا , وذهب يفصّل جزئياتٍ في جماليات تلك الحديقة ..
وأبو رضا يُردد : ( حاجة بتفتح النفس ) .
سعيد يطرح كل حدث بطريقتين :
الأولى : من الواقع الذي ينتظره أُفْق أبي رضا .
والثانية : يكسر أفق هذا الانتظار بطرح اللامتخيل .
يعيد ويكرر في حبس أنفاس أبي رضا , حتى يكون أفق الانتظار متجانس مع الذات المتفاعلة
فمثلا : ( قصة بائع الفول والطفل ) :
يقول سعيد : ( فيه ولد صغير ما معه مصاري كتير , ويحاول يقنع البائع أنه يحطلّه كمية فول إضافية ) = أفق انتظار أبي رضا يقول بسخرية ( ودخلك قبل البيّاع ) ؟!! .
هنا يأتي سعيد ليكسر هذا الأفق قائلا : ( نعم قبل ) ويواصل ضاحكا ليطرح الحدث بشكل أكثر حدة : ( رجع الولد بدّه زياده كمان ..) هنا ينفعل أبو رضا : ( العمى ! أكيد البيّاع انزعج ..ورفض يعطيه .. ما هيك ؟ ) يعود سعيد ليكسر توقعه مرة أخرى :
( لا والله رجع صبلّه مرة تانية ) سَكَتَ سعيد ٌ ,وأصبح ينظر في ملامح وجه أبي رضا , وكأنه ينتظر نتيجة معهودة :
هنا ينكسر أفق انتظار سعيد نفسه حين قال أبو رضا : ( يا سلاااااام , هالبائع شهم , وما يرضى يكسر بخاطر الولد )
فكأن (سعيدًا ) رمز للشرفة التي تفتحها النفس لا لترى ما في الخارج إنما لترى الذات في تفاعلها مع الحدث .. وهذا هو المعنى الثاني للصورة , فأبو رضا اكتشف جزءا من ذاته من خلال الشرفة (سعيد) ؛ لأن سعيدا يصور الذات في حالين : حال مع واقع بائس , وحال مع واقع مفترض . وهذا يذكرنا برفاعة الطهطاوي حين اكتشف جزءا من ثقافته المصرية المهملة لما ذهب إلى باريس , ﻓﻲ ﺃﻭﺍﺋﻞ ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺘﺎﺳﻊ ﻋﺸﺮ ﻣﻮﻓﺪﺍ ﻣﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﻋﻠﻲ ﺣﺎﻛﻢ ﻣﺼﺮ ﺁﻧﺬﺍﻙ ﺿﻤﻦ ﻣﺒﺘﻌﺜﻲ ﻣﺼر فسجل ﺑﻌﺾ ﺁﺛﺎﺭ ﻣﺼﺮ ﺍﻟﻔﺮﻋﻮﻧﻴﺔ
ﻓﻲ ﻓﺮﻧﺴﺎ !!! يا للسخرية ﺍﻛﺘﺸﻒ ﻟﺪﻯ ﺍﻟﻔﺮﻧﺴﻴﻴﻦ ﺟﺰﺀﺍ ﻣﻦ ﺫﺍﺗﻪ ﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ ﺍﻟﻤﻬﻤﻠﺔ .
مما يصور حال العالم العربي وأوروبا في تلك الحقبة , ففرنسا كانت نافذة لرفاعة لينظر من شرفتها إلى الداخل وليس إلى الخارج .
وختاما أشير إلى أن هذه اللوحة هي نفسها (( نافذة )) تُطِلُّ على المعاني الغزيرة , المتجاورة والمتحاورة والمتصارعة وتفتح نوافذ تفضي إلى نوافذ أخرى .
فسعيد أيضا نافذة للرمزية في آلية القراءة والتأويل ؛ فمن خلال سعيد كانت قراءة أبي رضا للحدث ؛ والقراءة أشبه برحلة اكتشاف لنوافذ تتلو نوافذ , بحثا عن نافذة أخيرة ذات أسئلة حائرة .
كما أن سؤال أبي رضا حين دخل المشفى : (ما هي الوسيلة لتتسلى بمكان كهذا ؟ )
أجاب سعيد : (( لا يوجد إلا حلّا واحدا هو ( الحكي ) )) تذكرنا بسلاح ( الحكي ) في ألف ليلة وليلة في حالة ( شهرزاد ) كيف قاومت سلطة الرجل الجائرة - المتمثلة بشهريار - بطرق أنشأتها من ذاتها - حين عرفت مكامن إبداعها - فسلاح اللغة - الكامن في ذات شهرزاد - كان ينتظر مُشْهره ... فأشهرته شهرزاد فأدخلت شهريار في جو من البيان , فشعر أن ثمة نقصا يحيط به , لا يأتيه إلا من خلاله .
هنا سيكون (سعيد) في لعبة سردية مع (أبي رضا) , وخصوصا أن أمامنا حكايات -يرويها سعيد- متداخلة مترابطة آخذة بعضها برقاب بعض .
وتتواصل النوافذ ...
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية