عمر بن الخطاب يقيم الحد على داعش!
كان الشاعر جرول بن أوس بن مالك العبسي الشهير بـ (الحطيئة) من أبرع شعراء العرب في الهجاء، وقد هجى ذات مرة رجلاً يدعى الزبرقان بن بدر، بقصيدة اشتهر منها البيت السائر:
(دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها.............. واقعد فإنك أنت الطاعُم الكاسي).
فشكا الزبرقان الحطيئة للخليفة عمر بن الخطاب، لكن عمراً، لم يشأ أن يحكم بنفسه، بل طلب شاعراً من أهل الاختصاص هو حسان بن ثابت، وعرض عليه قصيدة الحطيئة ثم سأله: (هل هجاه؟) فقال حسان: بل هو أكثر من الهجاء.. والله لقد سَلَحَ عليه. أي سبه وشتمه وأقذع في ذلك.
ولم يكتفِ عمر بحسان، بل أحضر شاعراً آخر هو لبيد، فأكد أن ما قاله الحطيئة هو أشد أنواع الهجاء.. فعاقب الخليفة عمر بن الخطاب الحطيئة بحبسه في بئر.. ثم عفا عنه عندما استعطفه بقصيدة يذكر فيها عياله:
ماذا تقولُ لأفراخٍ بذي مَرخٍ
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعر مظلمةٍ
فاغفِرْ عليك سلامُ اللهِ يا عمرُ
وهكذا فقد كان بإمكان عمر أن يحكم على الحطيئة بنفسه، وهو ابن بيئة لا تجهل مرامي الشعر ولغته، ولكنه أراد كرجل دولة ينشد تحقيق العدالة، أن يستشير أهل الاختصاص. لم يطلب فقيها في الدين، بل طلب شاعراً. وكان هذا في صدر الإسلام، وفي عهد دولة الخلافة والسلف الصالح، لا في عهود: (الدول والمجتمعات الكافرة)!!!
ترى لو أرادت (داعش) اليوم أن تحاكم قصيدة شاعر في الأراضي السورية المحررة تتهمه – مثلا- بالفكر والزندقة، هل ستأتي بشاعر أو عالم في اللغة لتستشيره، أم سيحكم الأمير الداعشي بنفسه، ويطبق الحد واثقاً بعدالته؟!
روى الشيخ علي الطنطاوي في كتابه: (أخبار عمر) أن عمراً بن الخطاب رضي الله عنه، مر بمتسوّل شيخ كبير البصر فسأله:
- من أي أهل الكتاب أنت؟
- قال: يهودي
- قال: ما ألجأك إلى ما أرى؟ (أي للتسوّل)
- قال: أسأل الجزية والحاجة والسن.
فأخذ عمر بيده إلى منزله فأعطاه شيئاً من المال، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال له:
- انظر هذا وضرباءه (أي أمثاله) فوالله ما أنصفناه، أكلنا شبابه ثم خذلناه عند الهرم. ورووا أنه تلا قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) وقال: الفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب!
تلك قصص مثبتة ومحققة، ولا يمكن الطعن بها... أما قصة عمر بن الخطاب مع شارب الخمر فهي معروفة، وإن كان هناك من يشكك بها اليوم ويعتبرها منحولة، لكنها وردت في أكثر من كتاب من كتب التراث وقد أخرجها الخرائطي في (مكارم الأخلاق) فقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجد عنده امرأة، وعنده خمرا، فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته؟ فقال: وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي، إن أكن عصيتُ الله واحدة، فقد عصيتَ الله في ثلاث. قال تعالى: ولا تجسّسوا.. وقد تجسست، وقال الله عز وجل: وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها.. وقد تسوّرتَ علي، ودخلت علي من ظهر البيت بغير إذن. وقال الله عز وجل: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها... فقد دخلت بغير سلام. قال عمر رضي الله عنه: فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال: نعم، والله يا أمير المؤمنين، لئن عفوت عني لا أعود لمثلها أبدا، قال: فخرج وتركه".
تلك هي أخلاق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي كان ذات مرة يخطب ناهياً عن المبالغة في طلب المهور، فقامت امرأة تذكره بآية من القرآن تفيد بعكس ما نهى، فقال عمر كما ذكر ابن الجوزي: أصابت امرأة وأخطأ عمر!
لقد دل هذا الموقف على تواضع رجل عادل، وعلى قدرته على مراجعة نفسه دون أي خوف على هيبة أو سلطان... فالحق يعلو ولا يعلى عليه... فما سيكون موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو رأى ممارسات "داعش"، وهي تدعي أنها تطبق حدود الله... وكلما أراد أحد أن يناقشهم أو يراجعهم في أفعالهم اتهموه بالكفر؟!
إن واحداً من أعظم الكبائر في الإسلام وهو (الزنى) وضع الشرع الإسلامي شروطاً تعجيزية لإثباته... فلو رأى ثلاثة رجال رؤية العين، رجلا وامرأة يزنيان، وذهبا إلى القاضي ليبلغوه بضرورة إقامة الحد عليهما، لأقام عليهم –هم- حد القذف وجلدوا، ما لم يأتوا بشاهد رابع، ويقسموا اليمين على صحة ما رأوا... لأن شرط إثبات الزنا في الإسلام: أربعة شهود عدول (أي مشهود لهم بحسن السيرة)!
هل هذا يعني أن حادثة الزنا التي رآها ثلاثة رجال هي وهم؟! ربما لا... لكن أراد الإسلام أن يضع شروطاً صعبة تمنع على رجلين أو ثلاثة أن يتفقوا فيما بينهم ليشوهوا شرف امراة إن لم يكن الأمر صحيحاً، وأراد – فيما لو كان الأمر صحيحاً- أن يترك مجالاً للتوبة والعودة إلى الله، قبل أن يغدو تطبيق الحد العلني إشهاراً للفضيحة، يصم سمعة أسر بكاملها بوصمة العار... فأي إسلام هذا التي تدعي "داعش" تطبيق حدوده؟!!
لقد انتشر الإسلام في إندونيسيا في القرن الثالث الهجري وهي أكبر دولة إسلامية بعدد السكان اليوم، بفضل أخلاق التجار المسلمين الذين قدموا إليها. لم يدخل الأندونيسيون الدين الإسلامي بالفتح ولا بالسيف، بل عن طريق التجار العرب المسلمين، لمِا رأوه من أمانتهم وصدقهم وحسن معاملتهم، فكانوا سفراء لدين سمح حنيف... ترى لو أرادت "داعش" أن تقيم دولتها (الإسلامية) في إندونيسا بمثل هذه الأخلاق وهذه الغلطة، وهذا الجهل بروح الدين وأصوله... هل كان سيدين أكثر من مئتين وثلاثين مليون مسلم بالإسلام، الذي استمر قوياً راسخاً في القلوب لقرون وقرون في تلك البقاع؟!
حين أقرأ في أخبار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رجل الإسلام القوي، والخليفة العادل الذي لم يهن ولم يهادن يوماً... أميل للاعتقاد – ولو مجازاً- أنه لو رأى ما تقوم به (الدولة الإسلامية في العراق والشام) في الأراضي السورية المحررة، وما تجره على هذا الدين السمح الحنيف من سوء فهم ومن نفور، لأقام هو الحد على دعاتها ومدعيها!
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية