يحتاج الإنسان دائما إلى أسلوب أو طريقة تجعله يواجه الواقع الذي يعيش فيه كي يتأقلم معه، ويعيشه بشكل متناغم مع أفكاره وعقائده وأخلاقياته، وهذا ما نطلق عليه في الطب النفسي اسم آلية الدفاع. وآليات الدفاع هذه تقسم إلى قسمين: آليات دفاع غير ناضجة، وهو أسلوب مرضي وغير ملائم يتبعه الشخص كي يتوازن مع محيطه ووقائعه، ومن أشهر وسائل الدفاع غير الناضجة هي الإسقاط، وفيها يتهم الشخص الآخرين بكل ما يدور في نفسه من مشاعر كراهية و حقد و ضغينة، فلست أنا الذي اكره كل الناس بل كل الناس تكرهني. وهناك أيضاً الإنكار، وفيها يحاول الشخص التجاهل التام لكل الواقع السيئ و يتصرف كما لو أن هذا الواقع المؤلم غير موجود. بالإضافة طبعا إلى آليات دفاع أخرى كالتبرير والإزاحة و غيرها من آليات الدفاع غير الناضجة. وأما القسم الآخر فهي آليات الدفاع الناضجة، وهي أساليب يتبعها الأشخاص المتوازنون الذين يمتلكون قدرات صحية على التأقلم، ومن أشهر هذه الوسائل هي الفكاهة.
فالفكاهة ليست حالة ترف فارغة، بل هي علمياً وسيلة ناضجة لمواجهة الواقع ومحاولة فهمه من خلال الضحك، ولا يستطيع أي شخص مواجهة واقعه بالفكاهة إلا إذا كان لديه حد معقول من قوة الشخصية، ومن القدرة على التأقلم، وحين تنهار دفاعات الشخص هذا، أو يصبح عاجزاً عن هذه المواجهة يدخل في وسائل الدفاع غير الناضجة أو ربما تصل به الأمور إلى الحالة العصابية، و حينها يحتاج إلى مداخلات علاجية.
وما ينطبق على الإنسان الفرد ينطبق أيضا على المجتمعات.
فالمجتمع السوري، بل المجتمع العربي عموماً قام بثوراته في بدايات الربيع العربي بروح فكاهية عالية وجدناها بشكل متألق جدا في ميدان التحرير و ميادين مصر الأخرى، هذه الحالة سرعان ما انتشرت إلى ميادين سوريا في أيام الثورة السورية الأولى، فأبدع السوريون كثيراً من الكوميديا والسخرية اللاذعة من خلال هتافاتهم المنادية بإسقاط النظام بطريقة خلاقة، وسخريتهم من غباء و بلاهة بشار الأسد، وكل السوريين تقريبا حتى المؤيدين منهم للعائلة الحاكمة ضحك مع المتظاهرين السوريين، وانتقلت أغاني القاشوش الشعبية الساخرة إلى ساحات العالم كلها، كذلك فعلت لافتات كفر نبل ..
من منا ينسى مظاهرة أبناء تلكلخ الأولى وهم يحملون الطبول ويهتفون ( با بشار باي باي.....بدنا نشوفك بلاهاي)، أو هل ننسى خروج السوريون في مظاهراتهم وهم يحملون البطات الحية معهم، وبعضهم صنع مجسمات ضخمة للبطة إشارة إلى الفضيحة التي كشفتها الرسائل الالكترونية الخاصة ببشار الأسد، ولا تكاد تخلو مدينة سورية من حالات فكاهية في أسلوب التظاهر والاحتجاج، وخاصة مدينة الضحك السورية حمص.
على الرغم من أن المتظاهرين السوريين خرجوا دون أي تخطيط مسبق لكنهم أبدعوا وأبدعوا، لأن ما صنعوه كان نابعا عن إرادة وتصميم وقوة في الشخصية منحهم إياها إحساسهم أنهم قادرون على الثورة وعلى إسقاط أنظمة كانت تجثم على رقابنا عشرات السنين.
وحتى في الأشهر الأولى لعسكرة الثورة بقيت روح النكتة سائدة في الثورة السورية، وكم من اللقطات الموجودة على اليوتيوب تنقل نهفات الجيش السوري الحر، و لم يجد السوريون حينها أي حرج في وضع هذه النهفات ونشرها لأنها تعبر عن روحهم المرحة و حبهم للحياة.
لكن ومع العنف المفرط الذي واجه به النظام هذه الثورة، وانسداد أفق الحل السياسي و خذلان العالم الحر لها، بدأ العالم يحول الثورة السورية من حالة ربيع عربي وثورة عظيمة ضد أعتى الدكتاتوريات العسكرية إلى حالة مأساة و كارثة حلت على السوريين. وبدأت محاربة صورة السوري في وسائل الإعلام العالمية، ليتحول من صورة الشخصية القوية التي تواجه آلة القمع، إلى المشرد الذي يبحث عن مأوى وغذاء ودواء.
هذا التحول لا يبدو بريئاً على أي حال، فوسائل الإعلام العالمية تعرف ماذا تريد أن تنقل للمشاهد، وتعرف كيف تتلاعب بتفكيره، وهو مقصود بذاته لتشويه سمعة الفكر الثوري كله، لكنه وللأسف أصبح له تأثير حتى على السوريين أنفسهم، وهنا مكمن الخطورة.
فمع وصول هذا الإحساس إلى السوريين بدأت الشخصية السورية تضعف نتيجة الضغط الإعلامي المشوه لصورتها، وبدأ السوريون يغيرون من آليات دفاعهم، وأوضح ما يكون هذا التغير من خلال اختفاء روح الفكاهة لدى السوريين، وتحولهم إلى آليات دفاع أخرى غير ناضجة تبريرية وإسقاطية وحتى عصابية، واختفت المقاطع و اللافتات التي ميزت الحالة السورية المرحة أو تكاد.
حتى بعض السخرية التي يمكن أن نجدها بشكل نادر هنا أو هناك لم تعد تحمل روح الدعابة التي عهدناها سابقاً، بل أصبحت تافهة و مملة لأنها غير صادقة و فيها الكثير من التكلف.
هذا لا ينطبق على الحالة السورية فقط، بل هي حالة عربية عامة أصابت كل الشعوب تقريباً نتيجة الانحسار السريع لموجات الربيع العربي، وغياب الحديث عن الديمقراطية والمستقبل الموعود ليحل مكانه الحديث عن داعش والنصرة ومحاربة الإرهاب، وتراجع ثقة الإنسان العربي بنفسه و بقدراته الشخصية.
لذلك يجب علينا استعادة روح الدعابة فينا كي نحافظ على تماسكنا النفسي وعلى نضجنا الفكري مبتعدين عن تأثيرات الإعلام الذي يحاول كسر روح التمرد والثورة لأنه يريد أن يضمن عودتنا إلى حظيرة الدكتاتورية مرة أخرى. فخسارتنا للدعابة هي المرحلة الأولى لخسارتنا المعركة مع الدكتاتورية، ويجب ألا نسمح بذلك. وإذا كنا نعيش حالياً مرحلة انهيار لقيم الإنسان في عالمنا العربي، فإن هذا لا يعني انكسارنا النفسي، فللمعارك جولات وجولات، لكن المهم هو بقاء العزيمة والثقة، بذلك فقط ننتصر على حكم العسكر نفسيا على الأقل، قبل انتصارنا الحاسم عليه ووضعنا لهذه الدكتاتورية في متحف التاريخ.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية