القاعدة في سوريا
أصبح من الواضح أن جيلا جديدا من التنظيمات الإسلامية المتشددة يولد في سوريا، وهو إذ يدّعي النسب للقاعدة فذلك لحاجته لنسب وتاريخ عريق، أما قبول قيادة القاعدة التقليدية نسبته إليها، فذلك لحاجتها لمن يستمر في حمل اسمها... في كل حال الجيل الجديد مختلف بدرجة كبيرة، ومتباين فيما بين أفراده، وفي سوريا تجسد حتى الآن في نموذجين أوليين حديثين هما: جبهة النصرة، والدولة الإسلامية في العراق والشام، ويبتعد عنهما بدرجات مختلفة مجموعة كبيرة من التنظيمات الإسلامية الجهادية.
القاعدة تعريفا هي منظمة جهادية إسلامية سلفية تتبنى فكرة دولة الأمة الإسلامية بقيادة أمير للمؤمنين، وسياسيا تعتبر أن قيام هذه الأمة يتطلب هزيمة العدو (الغرب متجسدا في زعامة أمريكا) الذي يتآمر لمنع قيامها بكل الوسائل العسكرية والثقافية والسياسية، وعسكريا في هذه المرحلة لا بد من قاعدة يتم الانطلاق منها لضرب مفاصل قوة العدو بهدف إضعافه، قبل البدء بمسيرة التحرر من هيمنته في طول البلاد وعرضها وإقامة دولة الإسلام. وقد صنفتها الولايات المتحدة كمنظمة إرهابية لأنها استهدفت المدنيين بشكل عشوائي (طائرات مدنية، برج تجاري..) بهدف تحقيق غايات سياسية، ولم تخض معها حربا عسكرية نظامية كعدو معلن.
فهي وفقا لتصنيفهم عدو إرهابي، لا تنطبق عليه مواثيق جنيف حول قواعد الحرب.
والسلفية ببساطة هي أصولية إسلامية تعتبر أن العودة لأصول الدين تتطلب العودة للسلف الصالح وتطبيقه في الزمن الأول زمن التأسيس، والعودة تكون شكلا ومضمونا، فالأصل هو الماضي (وليس الجوهر العقيدي المتجدد الأشكال التطبيقية كما في مفاهيم التيارات التحديثية) ... والسلفية أقرب للمذهب الحنبلي، ولفقه ابن تيمية، ثم للحركة الوهابية، تلك التي تعتبر الأقرب للنمط البدوي الصحراوي من العقل والسلوك. فهي تجمع بين البساطة والتشدد والفروسية والتركيز على المعنى، فالقيمة ليس لما تنجزه أعمالنا بل لمعناها ودلالتها (والكلمة أهم وأبقى من الواقع).
وهي سلفية جهادية عندما تفتي بالجهاد وتحمل السلاح وتنظم المجموعات العسكرية، وتخوض المعارك، وصفة السلفية الجهادية هذه أصبحت تنطبق على الكثير من المنظمات المقاتلة في سوريا، وهي تتحول لصفة طاغية بازدياد مع الوقت، ومع ذلك ليست كلها قاعدة. أما صفة الإرهاب، فهي ما لا تنطبق على أي من التنظيمات في سوريا حتى الآن، حتى وفق التعريف الأمريكي ذاته: حيث ما يزال القتال في سوريا دفاعيا، ومركز أولا على النظام وجيشه وميلشياته، وليس ضد مكونات مجتمعية، ولا ضد دول أجنبية، أو مجتمعات أو مدنيين، فالثورة السورية قامت ضد نظام، ولم تقم ضد دول أخرى، وكل التنظيمات الموجودة لم تستهدف الأمريكيين ولا غيرهم بشكل مباشر ومتعمد، ولم تنشط خارج ساحات المعارك التي فتحها النظام ضد شعبه وبعض حلفائه الإقليميين، وحق الدفاع ورد العدوان بمثله مصون في كل شرائع العالم.
بينما تنطبق صفة الإرهاب تماما على كل المنظمات والدول التي تشارك النظام في استهداف المدنيين من الشعب السوري، وترتكب جرائم ضد الإنسانية بحقه، بهدف تثبيت سلطة سياسية ونظام حكم مرفوض شعبيا، وتكريس هيمنة إيران كمنظومة سياسية مذهبية في المنطقة. فصفة الإرهاب تنطبق على بشار وخامنئي ونصر الله، وليس على المجاهدين الذين يلبون فريضة جهاد الدفع لحماية أخوتهم وأهلهم، الذين قتل منهم ما يقارب نصف مليون وهجر عشرة ملايين، على عين ومسمع المجتمع الدولي الذي تنصل من كل مسؤولياته بما فيها العدالة الدولية، وهو ما يبرر أي وسيلة -مهما كانت– طالما هي للدفاع عن الحق في الحياة الذي ينتهك بشكل سافر. وشريك الإرهابي هو المجتمع الدولي الذي تواطأ وسكت وتخاذل عن وقف الإرهابيين الذين باشروا العدوان، رأينا جميعا سلوك الولايات المتحدة عندما تعرضت للإرهاب؟ ألا يحق للشعب السوري الدفاع عن نفسه في وجه من يقصف المدن بالبراميل والكيماوي والسكود!.
بعيدا عن النسب الافتراضي للقاعدة الذي هو إعلاني أكثر منه مادي .. لا نجد ما يبرر استخدام التوصيف الغربي الأمريكي ليشمل المجموعات الجهادية في سوريا .. فالذي انتقل لسوريا ليس تنظيما بل بضعة أشخاص، ثم نمت هذه المجموعة بشكل كبير وبسرعة بسبب تناسبها مع الظروف (النصرة) .. ثم انشق عنها فرع مختلف جدا في الكثير من الصفات وهو أقرب للسلطة (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وكلاهما الآن غير مطيع لمن يدعون مرجعيته وأبوته، ولا يعتمدون عليه في شيء، فتنظيم القاعدة أصبح ماركة وعلامة مسجلة تقليدية لصاحبها الظواهري، تبيع توكيلها وشعارها لمن تريد ومن يخدم سمعتها، وليست مصنعا فعليا للرجال المنظمين الذين ينفذون خطة واحدة بزعامة واحدة ذات قرار مركزي. ما يوجد هو جماعات جديدة تجريبية تنشأ حيث يوجد العنف والحرب والفوضى، وتعتاش على الوحشية والقتال، وهي قادرة على العمل في ظروف غير متكافئة وغاية في الصعوبة، وهي نمط نادر من المجموعات المتطرفة والمنعزلة عن المجتمع والمتميزة جدا عنه، تتميز باستعدادها الكبير للقتال وللموت في سبيل ما ترى أنه واجبها الديني... تشبه كثيرا ذكور النحل الذين يدافعون عن الخلية فيلدغون ويموتون، وكل أمة تبدي ذات الشيء في ظروف معينة بألوان مختلفة.. لتعبر عن حالة من الاستنفار الدفاعي المتطرف الطارئ تفرزها المجتمعات عندما تتعرض لغطرسة المتجبرين، أما الخصوصية الجهادية الإسلامية، فهي تتصف بأنها فعالة جدا وقوية إلى درجة كبيرة، وحربها مختلفة عن كل أنواع الحروب .. وهي عادة ما لا يكون هدفها دنيوي ولا سلطوي، بل معنوي و أخروي ... لكن لا ننكر أن مجموعات جهادية كثيرة اليوم تركز على موضوع السلطة... كما أن البيعة التي تأخذها من الناس ليست بيعة جهاد واستشهاد، بل بيعة ولاية وطاعة وأمر (سلطة) .. وهي إذ تدعي حاجتها لتلك البيعة من أجل إرضاء الله واستجلاب نصره بالعبادات والنوافل والطاعة التامة والتطبيق الحرفي، لكنها بممارساتها وصراعاتها تبدي مقدار رغبتها في السلطة بحد ذاتها.. وسعيها وراء عناصر الثروة والسلطان، فيما وراء ادعائها الأخروي.
ومع أن الطبيعة التنظيمية لدولة العراق والشام هي طبيعة طالبانية بامتياز (دولة مجاهدين)، فإن جبهة النصرة جماعة جهادية تنأى عن الشؤون المجتمعية والسلطوية، وتتبني نموذج حرب الضربات السريعة، تعتمد عادة على العمليات النوعية، وليس على الاستمرار في جبهات، وهي تشارك حيث يجب، وتضرب باحتراف ونوعية عالية، لكنها لا توسع حدود أيديولوجيتها خارج حاجات جهادها ودورها العسكري، وبذلك تعتبر نخبة في صفوف الجيش الحر والمجاهدين حيث تقدم بسخاء ولا تأخذ، وهناك من يشكر ويشيد بسلوكها وفعاليتها تلك .. لكن أمريكا تصر على تسميتها إرهابية..
و تحرص دولة العراق على تنظيم صفوفها وتأمين مواردها كمشروع دولة، وهي تعد وتخطط لبناء دولة متكاملة المكونات، وإقامة سلطة وتولية أمير حيث وجدت، وتضع يدها على الاقتصاد والتعليم والقضاء وتجند الشبان وتهيئهم، وهي إلى الآن تتجنب الدخول في معارك طاحنة وقاسية، بل تسير حيث تحتاج لقدر قليل من العنف والقوة، لكنها تمارس الحزم لنشر الرعب والهلع أمامها، فسمعتها تسبقها بكثير ، مما يغنيها عن خوض معظم المعارك .. فهي حسب الأمريكيين دولة إرهابية بسكانها وأرضها وهي دار حرب.
من وجهة نظر الغرب والأمريكيين السطحيين: كل مسلم جهادي له ذقن ويقول الله أكبر ويعاديهم هو إرهابي، حتى لو دافع عن النساء والأطفال، وهم لا ينتظرونه كي يمارس الإرهاب، بل يقفزون لتوصيفه شكلا .. بينما يعتبرون النظام الذي يستهدف شعبه بكل أنواع الأسلحة شريكا في محاربة الإرهاب (له شكله مختلف) أما جبهة النصرة التي لم تتقصد المدنيين بشكل عشوائي، حتى في حربها مع النظام وحاضنته الشعبية، رغم حقها في رد العدوان بمثله .... فهي إرهابية وفق تصنيفهم (بسبب شكلها) .. وكذلك بالنسبة للدولة الإسلامية، فهي لم تقاتل كثيرا حتى الآن، وربما كانت صراعاتها مع مجموعات الجيش الحر أكبر من صراعها مع النظام، لكن أمريكا تعتبرها نموذجية لتحمل صفة الإرهاب (شكلها الطالباني) ... وهم يحضرون بسرعة لمواجهتها بالطائرات من دون طيار، التي لم تستخدم ضد عصابات الشبيحة والعباس ونصر الله والحرس الثوري رغم ممارستهم للإرهاب فعلا وعلى نطاق واسع وتصنيفهم الإرهابي من قبل الأمريكيين ذاتهم..
والشعب السوري منقسم .. منهم من يشجع كل المجاهدين في حربهم ضد النظام المجرم الذي يمعن في قتله وتهجيره، وهم القسم الثوري والمتدين المتمسك ببعض الشعارات الإسلامية وربما بدولة ذات طابع إسلامي، لكنه لا يقبل أن تؤخذ منه البيعة بهذه الطريقة ... ومنهم من يخشون أن يستمروا تحت حكم هذه الأيديولوجيا الجهادية بعد سقوط النظام، وهم يحذرون من صعوبة استعادة السلطة من هؤلاء بعد استقرارهم فيها .. ومشاعرهم موزعة بين دعم من يريد إسقاط النظام، والتخوف من الوقوع تحت سلطة ونظام جديدين يذيقهم المر بعد أن ذاقوا الأمرّين من النظام الحالي..
وطالما أن الفارسي والعراقي و معهم النظام يقتلون الشعب من دون تمييز، وطالما أن الشعب مشرد وهائم على وجهه.. فالمناخ مناسب للتشدد ولنمو منظمات جهادية، التي منها القاعدة أو من تسمي نفسها كذلك.. وإطالة عمر هذا الصراع بشكله المأساوي الحالي هو ما سيمكّن دولة الإسلام الجهادية في الأرض، وسيتيح لها الاستقرار في الشرق.. وهو ما سيحول المنطقة لحاضنة للتطرف تستجلب المجاهدين من كل مكان، وتقوم بتصدير خيراتها للجميع، وأي سلطة سيشكلها الغرب في الخارج، لا تكون مقبولة من الأرض، ستضطر لمحاربة التطرف (الشعب) وبذلك تقوم بما قام به الأسد وتحت ذات الذريعة، بل تستكمله وتصبح مثله.. وعليه فسوف تتسبب بدورها في استمرار تغذية قوى التطرف، وتعزيز أسباب وجودها وستصب الزيت على النار، كما أحذر من خطورة المباشرة بمحاربة التطرف قبل سقوط النظام، لأن ذلك سيظهر دعما للنظام ويزيد من شعبية التطرف.. فقط الاستجابة لمطالب الشعب، هي الطريق نحو الاعتدال وتجنب التشدد (والإرهاب كما يسمونه)، ومن دون احترام حقوقه سيستمر العنف وسيشمل الجميع ... إلى ما شاء الله.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية