لم أفاجأ كثيراً بالبيان الذي نشرته ريما الرحباني (الابنة الأكثر اتزاناً للسيدة فيروز) على صحفتها على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) والتي تكذب فيه صراحة ادعاء شقيقها زياد بأن فيروز معجبة بحسن نصر الله. فلقد جاء زمن الثورة السورية ليؤكد للجميع أن (العقل زينة) كما كان يردد زياد نفسه.
في التركيبة النفسية للفنانين يمكن أن نفهم وجع زياد جيداً. فمعظمهم يتمسحون بأعتاب السياسة عندما تنسحب عنهم أضواء الفن. قد يحمل هذا الكلام الاحتمال النقيض أيضاً. فقد كان يمكن لزياد أن يدخل باب السياسة من جانب مناصرة ثورة شعب لا معاداتها... فما الذي منعه؟!
ما منع زياد حقيقة، أن نضوب العطاء الفني يخلق لدى الفنانين أزمة، وهم يحاولون التخلص منها بافتعال أزمات في آرائهم وتوجهاتهم السياسية. مناصرة الحريات وحركات تحرر الشعوب هي الحالة الطبيعية التي لا تثير جدلاً... وإن كان يمكن أن تخلق احتفاء عاماً. إلا أن ذلك لن يعوض عن الفراغ الحقيقي الذي يعيشه فنان تتهدده شخصيته أزمات عميقة... فجذوة الإبداع عندما تنطفئ تترك داخل الفنان حريقاً ورماداً. عندما يكون في سن متقدمة، يهرب الفنان إلى ماضيه المجيد، يتغنى بما قدمه، ويقول لنفسه ومعجبيه: أنا صرت جزءاً من التراث، وقدمت ما يمكن ان أقدمه. أما عندما يكون في منتصف العمر (زياد لم يبلغ الستين بعد) فإن المشكلة تبدو أعمق وأكثر إيلاماً.
والحال أن زياد استنفذ كل حالات الاستفزاز والصدمة، التي خلفتها تصريحاته الأولى عن الثورة السورية، وظهوره وهو يحضر خطب حسن نصر الله، وسط الصفوف الأولى لرجالات العمائم السوداء، الذين طالما كان فنه على النقيض تماماً من قيمهم. وقد أدرك أخيراً أن معركته السياسية قد انطفأت أيضاً، وأنه صار بالنسبة للسوريين (نمرة قديمة) ليست أشد ابتذالا او بذاءة من نمر الفنانين السوريين الذين سقطوا في امتحان الثورة، فأراد أن يستخدم اسم فيروز.
كان تعبير شقيقته ريما عن هذه الحالة بليغاً وموجعاً، حين وصفت تصريحات زياد بأنّها لا تتعدّى كونها "تكهّنات وتركيبات زيادية على حساب فيروز"، وبالتأكيد لا تنهى ريما عن الحديث باسم فيروز، ثم تذهب لتتحدث باسمها، ما لم يكن ذلك بطلب من فيروز نفسها.
أكثر من ذلك.. أضافت ريما قائلة: "أؤكّد لكم من موقعي، ومن هذا البيت، ومن حرصي وواجبي على المحافظة على احترام فيروز لاسمها، ومسيرتها، ورسالتها، وأعمالها، وماضيها، وحاضرها، وأسلوبها بالتعاطي مع الأمور، فإنّ هذا الموضوع وكل المواضيع والتصريحات السابقة السياسية وغير السياسية التي تناولت فيروز، لا تتعدّى كونها تكهنّات وتركيبات زيادية على حساب فيروز فقط لا غير، فلا تزعلوا، لأن مصير هذه الحملة سيكون مثل كل الحملات التي سبقتها، وهو معلوم".
الواضح أن ريما لم تنتقد الحملة المستاءة بحد ذاتها، بل انتقدت – ضمناً- التصريحات التي نسبت إليها فكانت سبباً لهذه الحملة. وقد بدا موقف زياد محرجاً للغاية في هذه الحالة. شقيقته تتهمه بالكذب على لسان أمه، فيما زياد يوالي ظهوره في وسائل الإعلام ليدافع عن فيروز التي أساء هو إليها!
في زمن الثورة. في زمن مئات الآلاف من الشهداء والمعتقلين والنازحين والمهجرين، ليست القضية أن فيروز معجبة بمجرم طائفي أو غير معجبة. القضية في الجوهر أن هناك من استكثر على السوريين الذين يحبون فيروز تاريخياً، حتى صمتها.
أراد أن يقول لهم: فيروز التي تحبون تكره ثورتكم... فاعترفوا بضلالكم، أو ابحثوا عن فيروز أخرى. أراد أن يفجعهم، أراد أن يستفز أحزانهم وخيباتهم في مواقف الأفراد والدول والفن والفنانين. أراد أن يقول لهم: ابقوا في العراء لوحدكم فثورتكم لن تتسع لأغنيات فيروز... عليكم أن تنسوا: (وطني يا جبل الغيم الأرزق) و(بالغار كللتِ أم بالنار يا شام) وعلى شام الثورة أن تنسى صوت فيروز يغني لها: (والانتصار لعالي الرأس منحسمٌ حلواً كما الموت جئت الموت لم تهب) فقد جاء السوريون إلى الموت وحيدين وسيبقون وحيدين بلا أغنيات.
لكن فيروز التي قاومت بصمتها كل التيارات السياسية في زمن الاستبداد، كما علمها عاصي... بقيت على العهد نفسه في زمن الربيع العربي وثورات الشعوب. المرأة المتشحة بالصمت والليل، التي نادراً ما تغادر بيتها، أرادت أن تبقى داخل صمتها وبيتها بعيداً عن شوارع الثورة.
هذا خيارها. ربما حقها... لكن زياد – لا أعداءه- هو من تعدى على هذا الحق، ثم تساءل بوقاحة: أن هؤلاء الناس الذين لا شغل لديهم سوى متابعة تصريحاته، والذين شنوا هذه الحملة: (هودي ليه موجودين)؟!
إنهم موجودون كي يقولوا: كف أذاك عن فيروز. صرحت باسمك حتى شبعت... فلماذا الآن تريد أن تتحدث باسم فيروز.
إنهم موجودون يا زياد لأنهم الحقيقة. ولو كانت لديك ذرة عقل لاعتبرتهم على الأقل: (الحقيقة التي تختلف معها) لكن الرجل الذي ضاق ذرعا ذات يوم بابنه (عاصي) لأنه يصرح باسمه وعلى حسابه كما يقول، فأراد أن يجري له فحص ) D.N.A ) مشككاً بأبوته، ومتسمتعاً بالفضيحة الاجتماعية التي سببها لشاب مراهق، ومشككاً بشرف امراة كانت يوماً زوجته، سوف لن يتردد أن يصرح باسم فيروز وعلى حسابها، لمعرفته بأن لدى فيروز من العقل والكرامة، ما يمنعها أن تفعل معه ما فعله مع حفيدها.
أما الشعب السوري الذي ذاق كل هذه الويلات... فلن يدعو الله أن يجعلها أكبر المصائب. لأن لديه وطنا، مع كل دماره وآلامه، أكبر منك بكثير... ولأنك مصيبتك هي في نفسك أولا وأخيراً يا أبا الزوز!
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية