إذا كانت تجارب الشعوب تقاس بالكيلومترات فإنها قطعت مسافات كبيرة جدا -و إن كانت لا تمثل شئيا بالنسبة لمسار تقدم البشرية- إلا أنه هناك من لم يقطع سوى أمتار عدة ويريد من الآخرين أن يمشوا بمزاجه .. في مثل هذه المرحلة الحساسة والحرجة جدا من تاريخ سوريا والمنطقة برمتها.
أبو حيدرة يريد تفصيل دولة علمانية بحسب مفهومه .. و أبو بكري يريد دولة على مقاس حارته .. أبو قتادة يريد أمة يخضع فيها المجتمع لعملية قسرية لإسقاطات من عالمه المتخيل المستمد من لغة الماضي..
مراهق يريد أن يسّير والديه بحسب مزاجه و بتأثير من تقلبات هرموناته وكيمياء جسده الجديد .. لا بحسب خبرة والديه وحكمتهما.
عبدو لم يخرج من حارته الصغيرة ولم يحتك بثقافات جديدة ويريد أن يطلق أحكامه على من يعتقد أنهم غرباء وخارجون عن السياق .. سياق عالمه الخاص ..
شاب لا علاقة له بالإعلام ولا بألف باء الصحافة يحرد إذا لم تطلق عليه لقب إعلامي.. ويريد هذا الشاب أن يصوغ أدبياتنا وفضاءنا اللغوي .. قسرا ..
سائق سيارة لجمع القمامة في أحد قرى الشمال السوري كان "الجبل الوسطاني" بالنسبة له نهاية العالم .. فجأة صار قائد كتيبة و يريد أن يحاكم الآخرين. ومع احترامنا لتضحايته وتضحيات أي شخص ولكن ليس من تخصصه بطبيعة الحال محاكمة الآخرين دون امتلاك مقومات مثل ذلك الفعل الذي يبنغي أن يكون مسؤولا .. قائما على معايير أخلاقية ودينية وقانونية تمثل عصارة التجربة الإنسانية في فض النزاعات والفصل بين أفراد المجتمع وإقامة العدل .. هذا السائق ذاته يريد أن يصوغ أدبيات خطابنا الوطني.. قسرا أيضا .. والأمثلة في هذا السياق كثيرة.
في الحقيقة نحن لا نعتبر من قصة أهل الكهف الواردة في القرآن الكريم.. ولا ندرك بأننا ذاتنا قد نكون –أو جزء منا- أهل الكهف نبيع ونشتري من الآخرين بعملة قديمة ولغة قديمة أكل عليها الزمن وشرب.. هناك من يعتقد أنه الحقيقة المطلقة .. ويرفض بالمطلق الاستعانة بخبرات وتجارب الأشخاص الآخرين والأمم الأخرى يرفض الذهاب إلى الخلاصات..الذهاب إلى العصارة .. هناك من يريد أن يفرض على الآخرين خبرة أمتاره القليلة.. بينما الآخرون قطعوا آلاف الكيلومترات .. وخلال تلك الرحلة الشاقة كونوا معارفهم واستخلصوا الدروس والعبر وأدركوا ما يجوز وما لا يجوز وهذا ما أدى إضافة إلى القيم الأخلاقية الدينية والإنسانية صوغ عقدا اجتماعيا وضعيا بناء اللبنات فيه ما تزال جارية وسوف تبقى.
قد يعتبر هذا الخطاب نخبويا متثاقفا لا يتماهى مع الواقع في الوقت الذي يمكن اعتباره توصيفا للواقع وتشخصيا للوضع السوري المأزوم.
في مختلف المؤسسات والشركات والمنظمات يتم الإعلان عن الوظائف للقيام بالمهام بناء على معايير, وهذه المعايير تتضمن المعرفة بالدرجة الأولى .. المعرفة بمعنى الخبرة التي تؤدي إلى تسيير العمل والنجاح به وأداء المهام بجودة عالية.
هذه الخبرة لا تأتي إلا بعد تحصيل علمي ومهارات ناتجة عن ممارسة العمل.. والمؤسسات التي تمتلك معايير حديثة في الإدارة والسعي نحو جودة الإنتاج لا تكتفي بهذين الأمرين فقط بل تذهب أبعد من ذلك في السلوكيات والمهارات الإضافية والهوايات ولا تكتفي بالأمر بل تخضع الموظف أو كل من ينتمي لتلك المؤسسة للتدريب المستمر لتحقيق أعلى جودة من الإنتاج .. لضمان جودة المخرجات ضمن كل الحدود المتاحة.. بينما في واقعنا السوري سواء كان قبل الثورة أو خلال الثورة فإن المعيار لا يزال حتى اللحظة هو درجة القرابة أو العلاقة الشخصية أو الولاء السياسي الديني الفئوي الحزبي الإيدولوجي..
في سوريا البعث أيضا .. يُسأل الفرد عن عدد الضباط والمسؤولين الذين يعرفهم ..
في أوربا القرون الوسطى كان يُسأل عن منزلة الشخص اجتماعيا بالسؤال عن اسم والده.
في الدول الدينية يُسأل الشخص عن صلاته و درجة خشوعه.
أما في الصين القديمة وحتى الجديدة فالشخص يُسأل عن عدد الامتحانات التي قدمها ..
و بينما نوصف هذا الواقع لابد من استلهام ما جاء في الآية الكريمة واستقراء معناها: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ؟
و في السياق ذاته لا بد من تذكر قول السيد المسيح:
- اغفر لهم يا أبتاه فإنهم لا يعلمون ..
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية