كثيرون هم ضحايا الحرب في سوريا، وكثيرة هي الأفلام السينمائية التي حاولت الاقتراب من مأساتهم، إلا أن فيلم "جرح" الوثائقي القصير من إنتاج بدايات للمخرج وائل قدلو، وبأقل من 9 دقائق، ذهب إلى تجسيد حياة المسعفين الميدانيين كجنودٍ مجهولين يتقاسمون مع المصابين والمتضررين الألم نفسه، وأحياناً الموت نفسه. حيث قدّم حكايات يومية من واقع مسعفة ميدانية روَت محاولاتها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح، في ظل تشديدات أمنية تعاقب المسعف كعقاب المجرم تماماً.
كيف يمكن لنا أن نتخيل الحياة التي تعيشها مسعفة ميدانية في سوريا اليوم؟ حتماً لا شيء من تخيلاتنا سيتساوى مع الحقيقة الفظيعة على أرض الواقع. ويقول قدلو: "وما أن تستقر حالها وتتنفس بعض الهواء حتى يناديها واجبها لإسعاف الجرحى في إحدى المشافي الميدانية.. فتعيب".
منذ البداية، ومن غرفتها الموجودة في مكانٍ ما من الواضح أنه في دمشق، نعيش مع هذه المرأة كوابيس الخوف المتقاطعة مع مشاهد حقيقية من المظاهرات والمشافي تكون أكياس الدم وشواهد القبور من أبطال المشهد. فعلى الرغم من أننا نراقب اللقطة الاولى وهي نائمة على سريرها في غرفة مليئة بعناصر الحياة الطبيعية من كتاب وسجائر وسرير وغطاء وهاتف، ننتظر بشكلٍ بديهي ولا شعوري الوجه الآخر والذي يفضي إليه عنوان الفيلم "جرح".
في حين الصورة تظلل وجه وملامح بطلة الفيلم، نسمع صوتها لتعرف عن نفسها وتقول: "أنا أخصائية عناية مشددة.. خلال فترة عملي كل شي مرق معي ما بيعمل واحد % من الأشياء الي شفتها بعد الثورة. شغلي الأساسي الآن في المشافي الميدانية أو مع المصابين لأنه مو دائما مؤمن مشافي ميدانية".
ربما كان من الأجدى أن نشاهد ولو جزءاً بسيطاً من حياتها بينما هي تمارس عملها في المشافي الميدانية، لكن من المتوقع كم أن هذه الفكرة ستحتاج إلى جهد ومخاطرة كبيرين، من جهة، ومن جهة أخرى ممكن أن تكون الرؤية الفنية للعمل تقتضي بالجانب الآخر من حياة مسعفتنا داخل المنزل.
لو أننا جربنا أن نفصل الصورة عن الصوت في معظم المشاهد، نستطيع تخيل كلاما آخر تقوله بطلة الفيلم عن أي شيءٍ آخر، ربما عن إحساس مختلف وعمل مختلف. لكن في محاولتنا لفك رموز الصورة، بينما هي تحيك الصوف الأحمر نتجه نحو "خياطة الجروح" الذي هو محور العمل، كذلك الأمر بالنسبة لصورة السكين والبندورة الحمراء جداً.
من هنا تأخذنا المشاهد جميعها إلى فكرة اساسية هي أن كثيرا من السوريين اليوم، وإن كان يبدو عليهم ظاهرياً أنهم يعيشون حياة روتينية في المطبخ والعمل وغرفة النوم، رقص، أكل، نوم، تدخين....، هم في دوامة الحرب لا يستطيعون الفرار من آثارها داخلهم، حتى أن بعضهم يعمل من أجلها ويساعد الآخرين الأكثر تضرراً والذين يعانون من آثارها بشكلٍ مباشر، ما جعلهم عرضة للقصف والانتهاك.
بطلة الفيلم تعلن إيمانها بالثورة السورية، وبأنها ضرورة لا مفر منها. بالرغم من كل المعاناة وكل الألم حيث أنها تصرح عن كونها تعمل في المشافي الميدانية وهي تبكي طيلة الوقت بسبب مشاهدتها لضحايا لا ذنب لهم يموتون كل يوم، ناهيك عن الأشلاء المرمية هنا وهناك والتي يعود قسم منها لأطفال سيعيشون من دونها بقية حياتهم، ومنهم من يموت. شيء حسب وصفها لا تستطيع الإنسانية تحمله.
في نهاية الفيلم تأخذ المسعفة الميدانية أدوات طبية قليلة وتذهب لمساعدة ضحايا جدد في بقعة ما من الشام، وتسلط الكاميرا عدستها على لقطة أخيرة لسرير فارغ.. هل استشهدت؟ هل اعتقلت؟ أم أن رصيد اليوم من المصابين كان كبيراً لدرجة أنها ستسهر الليل كله في محاولة إنقاذهم؟
الجواب يأتي من وائل قدلو الذي كتب في ختام فيلمه: "خرجت صديقتي لتقوم بعملها لكنها لم تعد حتى اليوم. تم اعتقالها على أحد الحواجز ولم يعرف مصيرها بعد. آب (أغسطس) 2013".
يعرض "جرح" في مهرجان سوريا الحرة السينمائي في دورته للعام الثالث، وهو من إنتاج "بدايات" مؤسسة سورية غير ربحية، تهتم بدعم وإنتاج الأفلام القصيرة والوثائقية والفنون البصرية، وتنظيم دورات تدريبية متخصصة تواكب كافة مراحل صناعة الفيلم الوثائقي.
رضاب فيصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية