قرأت كثيراً للسيد نضال نعيسة أفكاره عن القومية والدين والعروبة والعرب...إلخ. والتي يُمكن القول بأنها كانت شديدة السخرية والإستهزاء بالعرب، والقومية العربية، وبالإسلام والوحدة العربية. وكنت في كلَّ مرة أقرأ أستجيب لقول الله تعالى { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) الأعراف } إلا أن السيد نعيسة قد تمادى في مقالته الأخيرة، خاصة حين أعرض الناس عنه وعن تُرّهاته، ولم يصفعه أحدٌ ليوقف ترّهاته عند حدّها. وسأحاول الرد على عدد من النقاط الإستفزازية التي قال بها السيد نعيسة في مقالته:
1. لم يقٌل أحد من القوميين العرب، بأن القومية العربية هي في وحدة العرق أو الأصل، أو لون البشرة، أو حتى الدين ( وإن كان الدين يشكل أحد الدوافع الإضافية في مسألة الوحدة ). وإنما تنبعث القومية العربية المعاصرة إلى حاجة حيوية تستكمل الإنتماء، بالنسبة للشعوب العربية. ولندخل في تساؤل مضمونه: هل يُشكل توحيد الشعوب العربية في دولة إتحاد عربي (فدرالي) كبيرة عنصر قوة سياسي واقتصادي ومعيشي وعسكري وثقافي وتطوري في مجال العلوم الحديثة، وأنه يحقق لجميع شعوبها إمكانيات اقتصادية ومعيشية ودفاعية وثقافية أكبر بكثير مما هي عليه الآن في تشتتها في عشرات الدول التافهة من المنظور المذكور؟ أو أن مثل هذا الإتحاد سيكون من نتائج البوائد التاريخية والدينية التي يسخر منها السيد نعيسة؟ وتساؤل واقعي آخر هو هل كانت الولايات المتحدة الأمريكية بهذه الدرجة من القوة والإزدهار والسلطان، لو بقيت عبارة عن خمسبن دولة، كلٌّ منها مستقل عن الآخر استقلالا سياسيا كاملا؟ لا أظن إلا الأحمق هو الذي يُجيب بأنه كان من مصلحة الولايات المتحدة أن تبقى مُقسّمة لا أن تنفذ اتحادها الفدرالي الحالي.
2. أما بالنسبة لتاريخ الفتوحات الإسلامية الذي يسخر منه السيد نعيسة - وهو الذي فتح باب الإستهزاء البغيض - فأجيبه، أنه بغضِّ النظر عن الرغبة في نشر الدين الجديد الذي كان حاكما للعرب في حينه. ألم تكن جميع الحضارات والشعوب في ذلك الزمن وما قبله بذات الشيء؟ ألم يكن الفرس والرومان هم الذين اخترعوا الفتوح والحروب العالمية وقتذاك؟ ولكن ليس لمصلحة نشر دين يؤمنون به، ولكن لمصلحة الإستغلال والنهب الذي ما زالوا تُمارسه حتى اليوم القوة والحضارة الغربية التي ورثت الحضارة الرومانية. أو لم يمتد هذا الغزو بطريقة همجية فعلا إلى يومنا هذا بقرنين من الإحتلال والتهديم والتقتيل والتعذيب؟ وهل يُشكل احتلال العراق مؤخراً مظهرا من مظاهر الحضارة الإنسانية لدي الغرب الذي لم تلوثه القومية العربية أو الديانة الإسلامية؟ وهل كانت الحرب الصليبية على الأمة العربية والإسلامية في حينها حلالا مشروعا، وكان الفتح الإسلامي الذي سبقها بأكثر من سبعمائة سنة حراما وعيبا وغزوا محلَّ تندر بعض مثقفي العصر؟ ما أكثر من يدخل منهم تحت عناوين لا أرغب بذكرها.
3. أمّا الكلام الإستهزائي عن مشابهة القومية اليهودية بالقومية العربية. فإسرائيل لم تكن لتوجد لولا محاولة وجهد الصليبية الإستعمارية الإمبريالية الحديثة، ومصالحها النهبوية من المنطقة. وما كان لليهود أن يؤسسوا دولة ولا حتى قرية لولا الجهد الإستعماري الإمبريالي الهادف في ذات الوقت لمنع القومية العربية بالذات من أخذ دورها الدولي في هذا الزمن. وهو في الواقع الذي أقام دولة إسرائيل، وهو ما زال يُدافع عنها ويمدّها بمختلف أسباب الحياة والدفاع والهجوم. وإن كُنتَ تنكر هذا، فسلام عليك، والإعراض عنك خير وأولى.
4. إن كلَّ من يعرف شيئا من تواريخ الأمم ليجد أن جميع الأمم إطلاقًا عبر تاريخها كان يسودها مراحل متناوبة من سيطرة الخير والشرّ، ومن التقدم والإزدهار إلى التخلف والإنكفاء، ولم يمنع وجود حالات تخلف حضاري في بعض الأمم من عملها وجهدها في زمن مضى من استئناف مسيرة الحضارة والوحدة لشعوبها في زمن لاحق.
5. وهل تنتبه سيادتك إلى مثالك بقيام واحد ممن سميته خليفة بكنز آلاف الجواري في قصره- ولا أصدق هذا الأمر بأرقامه - ولا ترى عيناك وضميرك في نفس الوقت، كيف كان يقدم الرومان في احتفالات شعبية تاريخية أسراهم من الرجال والنساء والأطفال طعاما للأسود الجائعة وهم أحياء؟ ألم ترى كيف أحرق نيرون روما بشعبها ليتلذذ بسكرة على منظرها وهي تحترق؟ ألم تر فظائع الحرب الصليبية التي قتل الصليبيون في القدس وحدها في يوم واحد أكثر من سبعين ألف عربي؟ حتى صارت الدماء سواقي حقيقية في طرقات القدس؟ وهل عميتَ أن العرب والمسلمين لم يُمارسوا ذات المذابح بالغزاة القتلة، وإنما عاملوهم بأخلاق مثالية بعد أن تمكنوا منهم وانتصروا عليهم؟ ألم ترى إلى النازية الحديثة التي وصل قتلاها إلى أكثر من خمسين مليون إنسان، أو أنك لا ترى كبرى جرائم العصر، وهو إلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي، فقتلوا مليونا من الأبرياء غير المُقاتلين، رغم أن الحرب كانت قد انتهت عمليا بهزيمة اليابان وأن مفاوضات الإستسلام قد بدأت؟ ولمّا يُسأل ترومان عن مبررات القيام بهذه الجريمة الوحشية، يجيب: لقد أنفقنا على السلاح النووي ملياري دولار، أفلا نستعمله ونجربه على الأرض؟ وهل قال أو عربي أو مسلم مثل هذا الإفك الإجرامي عبر التاريخ كله أيها الناكر لعروبتك؟
6. ألا ترى أيها المثقف الناكر لعروبته أنك تمارس التركيز على سلبيات أمة العرب وفي بعض مراحل التخلف التي مرّت بها و التي تمر بها كلُّ أمة من أُمم العالم عبر التاريخ، وأنك مُصاب بالعمى عن رؤية مراحل الأخلاقية المثالية من الحكم العربي والإسلامي؟ وأن هذا لا يُمكن أن بريئاً أو مُصادفة، وأنه نتاج ثقافة إنسانية سامية، أو حتى غير سامية؟
إن هذا ليقودني إلى أن السيد نعيسة هو إما أنه مصاب في قدرته العقلية على المحاكمة العادلة، لأسباب معاناة نفسية في طفولته وصباه؟ أو أنه مستأجر - مثل كثيرين من المثقفين والقيادين والزعماء في عالمنا العربي المعاصر - لتهديم فكر القومية والوحدة العربية والتي تُشكل السبيل الوحيد لتوجه العرب باتجاه الديموقراطية والتقدم السياسي والإقتصادي والعسكري، وباتجاه الحضارة الإنسانية الهادفة إلى المثالية لحياة وثقافة وحضارة شعوبها. والعمل على نقل الشعوب العربية إلى مرحلة الأمة العزيزة لتعيش دورها وحقها في التكوين العالمي المُعاصر في دولة الإتحاد العربي الكبير، وذلك بديلا عن مرحلة تخلّف حقيقية تعيشها الآن، وتفرضها القوى الإمبريالية العالمية والصهيونية التي تريد إبقاءها هدفها العنيد، ويشاركها في جهودها - بكل أسف - بعض المثقفين العرب الشواذ عقليا وفكريا، والمرتَكبون بعقد نقص في شخصياتهم وعقولهم، وزعماء إنفصاليين تقوم مصالحهم وأنانياتهم على ترسيخ الإنفصال العربي طالما هم أحياء يستنزفون ثروة العرب.
أخيراً، عجبي لدولة ونظام يقوم على فكر الوحدة العربية، ولولا هذا الفكر لما كان هناك مبرر لوجوده أصلاً، يسكت عن هكذا تحقير وتهديم في فكر الأمة، بينما هو يحجب أو يعتقل ويُحاكم من يفتح فمه برأي قد يكون أو لا يكون في صالح الأمة ومستقبلها. وكيف يكون بعض الناس أحرارا في تحقير منهج الدولة والنظام وفكر الحزب وغيرهم ليسوا أحراراً في انتقاد سلوكية بعض المسؤولين فيه. عجبي. ألا وإنه من مسيرة الإنحدار. وأين القيادة الواعية الشريفة المُخلصة من هذا الأمر؟
خرافة أمة العرب الواحدة: إشكالية اللغة والانتماء ... نضال نعيسة
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية