كنت طالبا في جامعة دمشق أشاهد نشرة الأخبار في شقتي المتواضعة عندما أٌعلن خبر إطلاق سراح نيلسون مانديلا بعد سبعة وعشرين عاماً قضاها في سجون سلطات الأبارتيد,فوقفت وأديت التحية العسكرية, فأنا مثل كثيرين غيري من العرب أعاني من عقدة التطلع إلى بطل.
وبالأمس أعلن خبر وفاة مانديلا فهبت جائحة من العنف الافتراضي (الفيسبوكي) بين السوريين أصابت كل من يساهم في ذكر بعض مناقب الرجل , أو المواساة في وفاته, أو يبدي نوعاً من الأسف والحزن على رحيله.
يفرق علماء النفس بين مفهومي الصدمة والرضَة, فالصدمة أذية نفسية مصدرها فيزيائي تكون من النوع الذي يمكن للنفس الإنسانية أن تتحمله وبالتالي تقوم بهضمه ودمجه ثم استخدامه للانطلاق والتقدم والتغيير, أما الرضَة فإنها أذية نفسية ليس بلضرورة أن تكون فيزيائية المصدر, تكون فوق قدرة النفس على الاحتمال, ولا يكون هناك إمكانية لهضمها ودمجها وتجاوزها, وبالتالي للتحفييز على الانطلاق والتغيير, وإنما تكون دافعاً دافعا للهروب من الواقع إلى الماضي ومن الوعي إلى اللاوعي.
يمر السوريون بأزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ونفسية, أخشى أن تكون قد تجاوزت حدود قوة الصدمة ودخلت في مجالات الرضَة, فتدفعهم للنكوص إلى الماضي واستحضار أبطاله وإنجازاته, والنكوص من الوعي إلى اللاوعي بالهجوم على الحاضر وأبطاله وإنجازاته بل شيطنته وتخوين أشخاصه وتكفيرهم.
الأزمة التي يمر بها السوريون جعلتهم يبحثون عن بارقة أمل يقدمها فرد أو جماعة أو تيار مدني أو عسكري, دولي أو إقليمي أو محلي.
ولمَا طال أمد الأزمة واقتنع السوريون ان لا أحد مهتمٌ بعدالة قضيتهم أو معاناتهم,واعتقدوا أن أزمتهم قد تكون عصية على الحل بدؤوا يفقدون بارقة الأمل, وراحوا يكفرون بالحاضر وينكصون إلى الماضي, ويدمرون الوعي بالعودة إلى اللاوعي.
بدأ اللاوعي يعمل على استحضار انجازات الماضي وعقدة التفوق ,انجازات الأمة التي قادت العالم في يوم من الأيام, فكيف يخرج من غيرها رجل يقف له العالم كله باحترام وإجلال ويتحول إلى أسطورة, ولا يخرج من بينهم وهم بأمس الحاجة إليه.
هذا النكوص إلى اللاوعي سبب هذه الجائحة من العنف الافتراضي التي تمثلت في الهجوم على رجل قدم أروع الأمثلة على طول القرن الذي عاشه من الكفاح السلمي إلى الكفاح المسلح, ومن الصبر على أكثر من ربع قرن في السجن دون التنازل عن قضية الوطن إلى التسامح مع السجان, ومن الزهد في السلطة إلى الوقوف مع المظلومين في العالم, وكلها أمثلة تمثَل الثوار السوريون بعضها ويحتاجون للمران على بعضها الآخر.
الرجال العظماء ليسوا نتاج أنفسهم ولا يكونون نبتا غريباً في الصحراء, ولكنهم نتاج مجتمعاتهم ونضالاتها وصبرها وتضحياتها, والسوريون ليسوا استثناء من هذا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية