أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ثقافة "المطاحشة" وغياب المعايير.. مؤيد اسكيف

لم يتمكن السوريون من دخول مفهوم المدينة الحديثة و الدولة العصرية, و حتى المدن الكبرى في سوريا يغلب عليها طابع تقليدي في تنظيم العلاقة بين الأفراد.. يعود ذلك إلى تهديم بنى المجتمع الحديث ومؤسسات الدولة التي تمثل عصارة التنظيم الاجتماعي والسياسي الإنساني بعد تجربة بشرية طويلة في حل وإدارة الصراع البشري..

كانت تتميز سوريا بتعميم ثقافة "المطاحشة" في الحصول على الحقوق ومختلف المكتسبات المشروعة.
وتتمثل هذه "المطاحشة" في مختلف مناحي حياة الإنسان السوري فصارت هذه الثقافة ركنا أساسيا في الدفاع عن الذات والحقوق والمكتسبات وحماية المصالح, وتختلف مشاهد "المطاحشة" في المجتمع السوري بحسب الموقف والظرف والحالة، علما بأن ا"لمطاحشة" هي شكل من أشكال التشبيح لحماية الذات.. لا تبدأ من استخدام اللغة العنفية ولا تنتهي عند المجاملة وتمسيح الجوخ "الكولكة" وحتى الإغراء الجنسي أو المالي..
في انتظار رغيف الخبز على باب الفرن أو على باب المؤسسة العامة الاستهلاكية يتمكن المرء من تحصيل حقه بجهد أقل ووقت أسرع في حال تمكن من "المطاحشة" وكلما توفرت أدوات المطاحشة كانت المهمة أكثر سهولة، وتتمثل تلك الأدوات بسلطة عسكرية مثلا أو لهجة معينة أو امرأة، خاصة إذا كانت جميلة، أو لسان فهلوي أو عين وقحة.. وغير ذلك.

في مؤسسات العمل الرسمية المختلفة يتمكن الموظف من الحصول على امتيازات كلما كان أكثر قدرة على المطاحشة.. ويتمكن ذات الموظف من الحصول على مهمات سفر خارجي كلما كان أكثر قدرة على إبراز قدرات المطاحشة..
في التلفزيون السوري مثلا يتمكن العامل في تلك المؤسسة أن يصير مذيعا كلما كان محترفا في المطاحشة ويستطيع أن يكون من ضمن البعثات الخارجية خاصة مع الوفود الرئاسية كلما استعرض إمكانيات المطاحشة..
في المؤسسة العسكرية يحصل الضابط على رتب عسكرية أو على امتيازات مختلفة مثل سيارة أو منزل أو سائق أو غير ذلك كلما كان قادرا أكثر على المطاحشة.

وفي المؤسسة الحزبية يتمكن الرفيق البعثي من دخول الانتخابات والنجاح بها كلما كان "مطاحشجيا" محترفا و ليس ضروريا الإيمان بالمنطلقات النظرية للحزب القائد للدولة والمجتمع.

في زحمة السير يتمكن السائق من العبور بسرعة أكبر كلما كان ابنا شرعيا أكثر لتلك الثقافة وفي الجدال مع شرطي السير تكون للسائق الغلبة كلما طاحش أكثر. 

أما عن شرطي المرور فيستطيع اختيار المنطقة "المرزوقة" والتي فيها غلة كلما تمكن من إتقان تلك الثقافة.

وفي الجمارك يستطيع الضابط أن يكون مسؤولا عن نقطة حدودية مرتبطة بالقادمين من الخليج.

في التمثيل والفن والدراما والشعر وميدان الثقافة يستطيع هذا المبدع الحصول على امتيازات "ندوات -أمسيات -مسلسلات -شركات إنتاج -رعاة" وغير ذلك كلما كانت المطاحشة متقنة أكثر، ومن لا يتقن المطاحشة لا يسمع به أحد فيصير مهمشا وغالبا ما يلجأ للهجرة.

ليس من الضروري أن تكون المطاحشة خشنة دائما أو تستخدم لغة عصابية انبحاتية ردحية، بل يمكن أن تكون ناعمة مغرية متذاكية تخرج منها رائحة الفهلوية.

لا أعتقد أن الإنسان السوري تخلّص من هذه الثقافة بعد انطلاق الثورة بل ربما خرجت تلك الثقافة إلى العلن وبشكل أكثر وضوحا لتؤكد مدى تجذرها في المجتمع.

الشخص المطاحش تمكن من الحصول على دعم من الائتلاف والذي طاحش أكثر حصل على الأكثر.. 
ولسان بعض القائمين على تلك المؤسسة المعارضة "يا أخي اعطوه وخلصونا حاج يتصل فينا كل يوم و يصرعنا" لم يكن العطاء هنا مبنيا على معايير..
كلما طاحش الناشط الإعلامي أو حتى المعارض السياسي كلما حصل أكثر على ظهور إعلامي..
حتى على مستوى الناشطين المدنيين، فالناشط سواء كان ذكرا أو أنثى يتمكن من الحصول على رقم أكبر من الدورات كلما كان "مطاحشجيا" محترفا.

البعض يريد أن يطاحش حتى في الحصول على الحسنات وامتيازات الآخرة .. يزاود عليك في إيمانك، يطاحش عليك في قناعاتك وسلوكك، يطاحش في كل ما يتعلق بالشأن الديني. 

غياب المعايير الناظمة للمجتمع أو بمعنى آخر غياب مرجعية المعايير التي تأتي بعد خلاصة من التجارب الإنسانية والبشرية والدراسات العلمية والأكاديمية يعمق من ثقافة المطاحشة. ويصير اللجوء إلى الأساليب الملتوية بديلا لحماية الذات و تدعيمها.. وهذه المعايير التي تنظم العلاقة بين الفرد والمؤسسة. ب
بين مجموع الأفراد هي التي تغيب عن المجتمع السوري، وكي أكون أكثر دقة فإن المجتمع السوري لديه معاييره في تنظيم العلاقة ولكن تلك المعايير قائمة على الولاء العشائري العائلي المناطقي الطائفي العصبوي، وعلى مبدأ القوة والتذاكي والفهلوة وليس على منظومة المعايير الحديثة التي تحدد الواجبات والحقوق والمؤهلات والكفاءات وغيرها .. وتساعد منظومة الحكم والأمثال الشعبية على تعميق تلك الثقافة.

من حق المرء الحصول على كل ما يريد شريطة ألا تكون الوسيلة على حساب الآخر أو خارجة عن الإطار المشروع و القانوني والأخلاقي.

بطبيعة الحال من حق المرء أن يترقى وظيفيا ويحصل على المكتسبات لأنه يستحق ذلك و بناء على مؤهلات ومعايير منضبطة وليس كونه مطاحشجيا..
أحصل على رغيف الخبز لأنه حقي، وطالما أمتلك المعايير المطلوبة لتلك الوظيفة فلا بد لي من الحصول عليها دون مطاحشة، ليس علي أن أطاحش من أجل الحصول على رخصة بناء، إنه حق مشروع لي ولابد من معيار ناظم للعملية.

يجب أن يخضع الناشط لدروات طالما تنطبق عليه المعايير، ويجب أن يقدم الائتلاف الدعم لتلك الجهة أو لذلك المجلس طالما أنه يمتلك المؤهل والمعيار لذلك ويطابق المواصفات والمقاييس وليس إسكاتا له.

من حقي أن أؤمن وأفكر كما أريد لا كما يريد ذلك المطاحشجي .. الذي يسعى للحصول على حسنات الآخرة وامتيازاتها وحورياتها على حسابي بعد هدايتي بطريقته التي قد تأخذ شكلا عنفيا.

لن يتمكن المجتمع السوري من تجاوز محنته إلا بعد الاتفاق على مجموعة المعايير التي تصوغ العلاقة بين أفراده. وكي لا أضطر لاستخدام مصطلح "عقد اجتماعي جديد" أشدد على تحديد المعيار لذلك العقد الاجتماعي أيضا. والذي يريده البعض عقدا سماويا، والآخر يريده عقدا اجتهاديا، والآخر يريده عقدا تفسيريا على حسب مقاس فهمه وربما مزاجه وخبرته الشخصية التي لا تستفيد من خبرات الشعوب والأمم.

إن المعيار في هذه الحالة عبارة عن مزيج فلسفي ورياضي واجتماعي. وبالتأكيد حقوقي يقوم على حماية الإنسان بما هو إنسان، تبعا لمختلف المواثيق الإنسانية التي تعتبر خلاصة تجربة البشر عبر قرون، وهنا لابد لأن يكون هذا المعيار مستندا إلى الخلاصات، لا يعقل أن نعرف المجتمع المدني مجددا، أو العقد الاجتماعي الناتج عن رغبة الأفراد ومكونات أي مجتمع من تحقيق العدالة والأمن والأمان وتنظيم الحقوق والواجبات.

المطاحشة حالة لابد من علاجها بالطرق العلمية، تماما مثلما تنظم الشوارع وتتم هندستها من أجل تنظيم المرور وتسييره بشكل سلس لا بد أيضا من تحديد المسارات التي سوف يسير فيها المجتمع وفق الأسس العلمية الحديثة والعصرية.

(122)    هل أعجبتك المقالة (137)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي