أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الخائن.. وسيم فاضل

مواطن عربي هارب مع ابنته الرضيعة من بلده العربي الذي يعاني جحيم الحرب؛ زوجته لم تكن معه لأنها كانت قد توفيت بسبب مرضها وعدم توفر الأدوية لعلاجها، وابنته مريضة وبحاجة لعناية عاجلة؛ كان لديه شعور عارم بالفخر بعروبته، وكان كله ثقة أن الدول العربية -التي سمع عنها في المذياع وفي كتب القومية- ستتقاتل لتحتضنه وتعالج ابنته، خاصة أنه طالما آمن بالعروبة، وطالما أحب تلك الدول أكثر من دولته التي نشأ فيها نظراً لحماسته القومية الزائدة.

وبعد رحلة شاقة وصل أخيراً إلى حدود أول دولة، وتمكن من عبورها بشكل غير شرعي نظراً لصعوبة العبور عبر حدود دولته، وبمجرد وصوله قام بتسليم نفسه بسعادة إلى سلطات الدولة الشقيقة، لأن لا نية لديه بأن يعيش متخفياً في ذلك البلد الشقيق الذي سيحنّ عليه ويستقبله ويعالج ابنته.

بمجرد أن قام بتسليم نفسه، قامت السلطات باحتجازه، واجتمعت كافة الهيئات والمجالس لمناقشة وضعه، وتبين معها أن هذا المواطن العربي قد يكون خطراً على الأمن القومي للوطن، فهو قد يكون جاسوساً، وقد يكون مجرماً، وقد يكون طامعاً بخيرات الوطن، وقد يكون كاذبا أو لصاً أو محتالاً، ووجوده سيؤدي بكل تأكيد إلى إضعاف الاقتصاد وخلخلة حالة الاستقرار، لذلك كان القرار بترحيله إلى دولة عربية مجاورة.

بمجرد صدور القرار، سارعت السلطات إلى إلقاء القبض على المواطن العربي وابنته في مكان احتجازه، وقامت بوضعه في سيارة السجن المصفحة، لترسله مباشرة إلى الحدود مع ضمان دخوله إلى الدولة العربية الشقيقة المجاورة، وبمجرد ما قامت بتسليمه إلى السلطات الشقيقة، عادت سيارة السجن إلى حضن الوطن، وخرج مسؤول كبير على التلفاز ليقرأ بيان انتصار الوطن على مؤامرة مشبوهة كانت تهدف إلى إضعاف الاقتصاد وخلخلة حالة الاستقرار التاريخية.

عند وصوله إلى البلد الشقيق المجاور، شعر المواطن العربي بشيء من الراحة، فلا بد أن ما حصل في البلد الشقيق الآخر هو مجرد خطأ، وأن ذلك الخطأ سيتم تصحيحه فوراً هنا، وسيقوم البلد الشقيق بعلاج ابنته المريضة. أثناء ذلك قررت السلطات احتجاز المواطن العربي وابنته، واجتمعت أعلى الجهات المسؤولة لتبحث في مصيره، وتبين معها أن هذه الفتاة المريضة قد تنقل مرضها إلى المجتمع العربي السليم، وربما يكون ذلك المرض هو أداة الاستعمار في إضعاف الأمة لتسهيل احتلالها، لذلك لا بد من ترحيل المواطن العربي مع ابنته حتى لا تنجح المؤامرة.

وبالفعل سارعت السلطات إلى اعتقال المواطن العربي المحتجز مع ابنته، ووضعته في سيارة مصفحة، وأرسلته إلى الدولة العربية الشقيقة المجاورة، وقامت بتسليمه وفق الأصول إلى سلطات تلك الدولة. ليتكرر المشهد وتجتمع القيادة ويتبين لها أن هذا المواطن خطر على اللحمة الوطنية النادرة وأنه سيقوم بإثارة الفتنة بما يضعف المجتمع ويسهل احتلال البلاد، فقامت بإرساله إلى بلد عربي شقيق آخر.

كان هنالك مئات الحجج والذرائع والبراهين التي تثبت أن هذا المواطن العربي هو خطر على أمن الوطن العربي وغذائه واقتصاده وصحته ومائه ونفطه ولحمته الوطنية، لذلك كان يتم ترحيله من بلد عربي شقيق إلى بلد عربي شقيق آخر، حتى وصل إلى شاطئ البحر مكرهاً، وهناك رأى قارباً يرسو لا قائد له، فالتفت حوله فلم يجد أحداً، فقام سريعاً بحمل ابنته وقفز إلى القارب وبدأ بالتجديف هرباً من الوطن العربي، بينما كانت الحكومات تراقب بحذر عملية هروبه تلك، وتعمل سراً على تسهيلها.

رويداً رويداً اختفى الشاطئ العربي، انتهت أحلام العروبة، وبدأت معها أحلام الوصول إلى بلد أجنبي يعطيه الإقامة ويقوم بعلاج ابنته المريضة، ومع تلك الأحلام شعر المواطن وابنته بالتعب، واستسلما للنوم.

كان المركب يهيم في البحر، بينما الأب يحضن ابنته ويشدها إلى صدره ويحلم بالوصول إلى شواطئ الأمان، فيما تصدر معدته أصواتاً من شدة الجوع الذي يعاني منه، فهو لم يأكل منذ اثنين وعشرين يوماً بدأ فيها تجواله بين البلدان العربية، وكان قد خصص أغلب فتات الخبز الذي رموه له في أماكن الاحتجاز لابنته الصغيرة. فجأة وأثناء نومهم، اعترضهم مركب عليه علم العدو التاريخي للعرب ونادى عليهم بأن لا يقوموا بأي حركة. وفي تلك اللحظة، استيقظ الأب فرأى المركب، ورأى العلم، وشعر بأن كل شيء انتهى، كل الأحلام العربية ماتت، وحتى الحلم الوحيد بأن يقيم في مكان ما ويعالج ابنته قد ضاع.

اقترب المركب العدو أكثر، وجاء الصوت منه مجدداً عبر المكبرات يطالبهم بعدم التحرك، وعندما أصبح المركب على مسافة قريبة جداً، وبعد أن قام الضباط والجنود بمعاينة سريعة له، قفز أحدهم إلى مركب الأب، ونظر مباشرة في عينيه. في تلك اللحظة لم يعرف الأب ما يقول، وبدأ يفكر بكل الاحتمالات، هو لا يخاف الموت، ولكن ابنته المريضة لا ذنب لها، وهي لا زالت طفلة. ثم استجمع كل قواه ونظر في عيني الضابط وصرخ في وجهه دون أن يعطيه فرصة للكلام: "اسمعني، أنا لم يعد لدي رغبة في الحياة، ولكن ابنتي صغيرة ومريضة وبحاجة لعلاج، وكنت قد حاولت أن أحصل لها على علاج من وطني العربي، قبل أن اكتشف أن الميت لا يستطيع أن يعالج الحي، فقررت الهروب، وأخذتها معي، وهي ليس لها ذنب بما فعلت أنا، لذلك أرجوك وأنا أكره وطنك الذي اعتقدت سابقاً أنه سرق وطني، أن تأخذ ابنتي وتعالجها، وأن لا تخبرها في يوم من الأيام بأن أصلها عربي". ثم قام بعد ذلك بدفع ابنته إلى الضابط، وقفز سريعاً من المركب وهو لا يعرف السباحة، ليغرق في أعماق البحر الهائج.

انتشرت القصة في صحف العدو، ومنها إلى صحف الوطن العربي، وفي أثناء ذلك وصلت جثة الأب الغريق إلى شواطئ وطنه الأم، لتلتقطها الجهات المختصة. وبعد معاينة الجثة والتأكد من هوية صاحبها تم إبلاغ الجهات العليا بذلك، فخرج مسؤول رفيع من القيادة، وأعلن أنه قد تم القضاء نهائياً على المؤامرة، بموت الخائن الذي سلّم ابنته إلى العدو، ثم قامت أجهزة الأمن بدفع المواطنين إلى ساحات الوطن ليعقدوا حلقات الدبكة تعبيراً عن فرحهم بالانتصار، وأعلنت الإذاعة رسمياً أن يوم موت المواطن العربي هو يوم وطني تحتفل به جميع الحكومات العربية لتذكير العدو بقدرتها على محاسبة كل من تسول له نفسه خيانة الوطن.

وسيم فاضل - مونتريال
(112)    هل أعجبتك المقالة (122)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي