دعونا من الثورة... ثمة مهمات أخرى
خذلْنا شعبنا وثورتنا واستحقينا بجدارة لقب أسوأ معارضة في التاريخ، والآن يرسم الآخرون مصيرنا ومستقبل بلدنا بمعزل عنا، فلا أحد يحترمنا أو يقيم لنا وزنا، وإن كان هناك من بقي بحاجتنا فإنما لاستكمال بعض الشكليات وتمرير بعض الإجراءات والقرارات.
ماذا نفعل الآن، وقد فشلنا في استحقاقنا الأول، استحقاق الثورة وإسقاط النظام؟ هل نستسلم ونتوارى عن الأنظار؟ أم أن هناك ما يمكننا عمله؟
نعم هناك الكثير مما يمكننا عمله، بل ومن واجبنا عمله، فهناك مهمة المحافظة على البلد وإبقائه قابلا للحياة، وهناك مهمة إعادة تجميع أشلاء المجتمع في جسم واحد يتقبل بعضه بعضا، وهناك مهمة وضع البلد على سكة الحضارة من جديد.. وما أصعبها من مهمات.
فالآن وبعد ألف يوم من العنف المفرط والمستمر والمتصاعد، أصبح السوريون في وضع مأساوي لا طاقة لبشر على تحمله، قتلاهم بمئات الآلاف، منازلهم مهدمة والموت يتربص بهم في كل مكان وفي كل وقت، ومثله الجوع والخوف والبرد.. نصفهم هائم على وجهه يتجرع الذل.. الاقتصاد منهار وكذلك مؤسسات الدولة.. أمراء الحرب واللصوص وقطاع الطرق ينشطون بحرية ويعتاشون على القتل والخطف والترويع.. التنظيمات التكفيرية العدمية تسيطر على معظم المناطق المحررة وتحكم أهلها بالقهر والغلبة.. المجتمع يمور بصراعات عديدة وحادة وخطيرة بين مكوناته، وهي تنذر بتدمير كل فرص الحياة والتعايش بين أبناء الكيان الواحد...
هذا هو الحال الآن فما أدراك لو استمر هذا الصراع الدموي لأشهر أو لسنوات؟
بعد انقضاء هذه المرحلة، ستبدأ مرحلة جديدة بالغة الصعوبة والحساسية، مرحلة حبلى بكل أنواع المخاطر والمنزلقات والأفخاخ التي يمكن أن تأخذ البلد إلى بر الأمان أو توصله إلى الجحيم، فالبلد منهك عديم المناعة بسبب ما ذكرنا، وفي هذه الظروف ستجري عملية نقله من نظام استبدادي مافيوي شمولي بوليسي.. إلى نظام مدني ديمقراطي، إذن المهمة جسيمة وكبيرة وصعبة ومعقدة، والإمكانات ضعيفة والشعب منهك وفاقد للصبر، والأعداء كثر ومتربصون..
المخاطر التي تحيق بالبلد بعد رحيل النظام أصبحت شبه مرئية، وكل واحدة منها كافية لدفنه لعقود، وقد تأتي مجتمعة، نذكر منها خطر حرب أهلية وطائفية لا تبقي ولا تذر، وخطر تقسيم البلد والانتهاء بدويلات ضعيفة لا تملك مقومات العيش والاستمرار، وخطر دولة فاشلة غير قادرة على القيام بوظائفها.. والسؤال المطروح علينا الآن هو كيف يمكننا إنقاذ البلد وجعله قادرا على تجاوز كل هذه الأخطار، وإيصاله إلى بر الأمان.
وباعتبار أن المعارضة لم ولا ولن تقدم أي خدمة للثورة، بل تكاد بتحركاتها الغبية أن لا تخدم إلا النظام، وباعتبار أن زمام الثورة قد خرج من يديها بالكامل، سياسيا وعسكريا، أو بالأصح باعتبارها لم تستطع يوما إمساك زمام الثورة، فلمَ لا تعترف بهذا الواقع وترحم الثورة وتتركها لشأنها، وتفكر في عمل يفيد السوريين لما بعد الثورة؟ ولم لا تجرب خدمة بلدها وناسها بطرق أخرى ومن جوانب أخرى؟ لماذا لا تجرب حمايتهم عبر جرعات من الوقاية تقدمها لهم لعلها تعينهم على اتقاء أخطار مهلكة لمرحلة ما بعد النظام، أخطار لا تقل بشاعة عما هم فيه، وقد تمكث بينهم لعشرات السنين؟
عليها، على سبيل المثال وليس الحصر، العمل على إخماد النيران الطائفية ومحاصرتها، وعليها العمل على تعزيز ثقافة المواطنة والتعايش، وعليها العمل على تعزيز قيم العدالة وسيادة القانون، وعليها تعزيز قيم المشاركة والمجتمع المدني والديمقراطية، وعليها إعداد مشاريع الخطط والبرامج والقوانين والدستور وإشباعها مناقشة، وعليها إعداد الدراسات حول استعادة الأمن وإحياء العدالة وإطلاق عجلة الاقتصاد، وحول التعامل مع الجيش وأجهزة الأمن، وحول عودة الحياة السياسية إلى ربوع البلاد...
لسوء حظ المعارضة وحظ الناس، فإن كل تلك المهمات تحتاج إلى جهود جماعية جبارة لا يمتلكها أحد بمفرده، وتحتاج إلى عمل مؤسسي وعلمي ومخطط، ولا يمكن إنجاز شيء منها بدون عمل الفريق وروح الفريق، إذن عودة إلى الاسطوانة المكرورة، وحدة المعارضة وتنسيق المعارضة وتفاهم المعارضة، ورغم أن مطلب وحدة المعارضة أصعب على المعارضين من إسقاط النظام، وأصعب من استعادة الجولان... إلا أنني أقول طالما أن المعارضة لم تستطع أن تتوحد لمواجهة استحقاقات الثورة بسبب ملفات خلافية عديدة مرتبطة بالكامل بطريقة إسقاط النظام وليس بأي شيء آخر، مثل عسكرة الثورة وسلميتها، والتدخل العسكري الخارجي، والعملية السياسية..، فلم لا تتوحد لمواجهة استحقاقات ما بعد الثورة؟ حيث تكون الملفات الخلافية قد ذهبت مع النظام، وحيث ملفات ما بعد النظام ليست محل خلاف؟ فليس ثمة في صفوف المعارضة من يريد حربا طائفية؟ وليس ثمة من يريد التقسيم؟ وليس ثمة من يريد دولة فاشلة؟ وليس ثمة من لا يريد مصالحة وطنية؟.. وكلهم، حسب ادعائهم، يريدون دولة مدنية ديمقراطية تعددية موحدة يسود فيها القانون وينعم فيها الناس بالحرية، وتستطيع شق طريقها نحو التقدم والاذهار..
دعونا إذن نترك الثورة لشأنها ومصيرها طالما أننا لا نستطيع خدمتها، فذلك والله أنفع لها وأرحم، ولنلق بملفاتنا الخلافية جانبا مفترضين أن النظام ساقط بين يوم وآخر، ولنفكر معا في ما يمكننا عمله في الفترة القادمة، نمد أيدينا لبعض من جديد ونكرس جهودنا لإطلاق تلك المشاريع التي ستساعد أهلنا على تجاوز محنتهم في مقبلات الأيام.
فشلنا في إيجاد حلول للازمات التي ستعصف ببلدنا ومجتمعنا بعد رحيل النظام سيكون كارثة جديدة تثقل كاهل أهلنا وأجيالنا، وسيكون أيضا وصمة عار جديدة تثقل ما بقي من ضمائرنا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية