قديماً قالت العرب "الغزاة يجلبهم الطغاة"، ولا ينطبق هذا الوصف اليوم كما ينطبق على الدول العربية وخاصة العراق وليبيا وسوريا، إذ تطرح علينا سوريا اليوم السؤال ذاته الذي طرح مرارا وتكراراً مع العراق وليبيا، وهو هل يمكن تغيير النظام دون تفتييتٍ لأسس الدولة ومؤسساتها؟، بالتأكيد يحمل هذا السؤال براءة من نوع: وهل امتلكت هذه الدول أصلاً مؤسسات حتى تستطيع الحفاظ عليها، أم إنها كانت مجرد واجهات لبنية تركيبية قائمة على عنف السلطة الأعمى بغض النظر عن شرعيتها السياسية والاجتماعية، وإن هذه المؤسسات الوهمية كانت مجرد غلالة لأنظمة...
قبلية وعائلية بالغة الشَّخْصَنَة أنجبت أنظمة شديدة القمعية عسيرة على المقاومة بالعمل السياسي المدنيّ، فضلاً عن التغيير بالوسائل السلمية. بل إنّه لم يحدث أن تم إسقاط أيّ من الأنظمة العربية المذكورة دون عاملين: أحدهما التّدخل الأجنبيّ وثانيهما تدمير مؤسسات الدولة وبناها. فقد تماهت عائلة الأسد في مؤسسات الدولة السورية التي انبثقت عقب الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي بحيث أصبح الفكاك عنها هو المستحيل بعينه، وترافق ذلك مع تغيير جذري في التركيبة الاجتماعية السورية بهف حماية هذه عائلة الأسد وموقعها في هرم السلطة السورية، فكاد يصبح مستحيلا إسقاط النّظام دون ذهاب مؤسسات الدّولة معه.
سوريا وخلال سنوات حكم عائلة الأسد كانت دولة هشة وضعيفة بالمعنى السياسي والاجتماعي والمؤسساتي، وكانت مؤشرات فشلها أكثر بكثير من مؤشرات قدرتها على النمو والتحول الديمقراطي، فقد فشلت سوريا أو بالأحرى تعمدت عائلة الأسد إفشالها تحطيم الإرث المؤسساتي الضعيف الذي نشأ بعد الاستقلال، فحولتها من دولة تأسست على الفكرة الجمهورية إلى دولة يمكن توريثها من الأب إلى الابن بدون أي مقاومة سياسية تذكر، ومن برلمان منتخب شهد أكثر المعارك السياسية سخونة في تاريخ الشرق الأوسط حول صلاحيات الجهاز التنفيذي ورئيس الدولة آنذاك شكري القوتلي، حتى منعه من رفع راتبه من 500 ليرة إلى 700 ليرة وإصلاح سيارته التي تتعطل يوميا مرات مرات لقطع المسافة القصيرة من قصر المهاجرين إلى قبة البرلمان بسبب الأوضاع في فلسطين.. إلى رئيس مطلق الصلاحيات كما في دستوري عام 1973 وعام 2012، إذ يستطيع أن يمارس صلاحياته "السوبر تنفيذية" كاملة وكذلك التشريعية في ظل عدم انعقاد مجلس الشعب، فضلاً عن القضائية، بوصفه رئيس مجلس القضاء الأعلى.
لقد تعمدت عائلة الأسد تحطيم هذا الإرث الذي كان مصدر فخر السوريين جميعهم بكل طوائفهم وتلويناتهم السياسية والأيديولوجية، لأنه السبيل الوحيد القادر على الإمساك بمقاليد السلطة والحفاظ عليها لعقود وعقود وتوريثها من الآباء إلى الأبناء.
وما زالت آلة القتل الأسدية الكيميائية وغير الكيميائية تفتك بالسوريين وتشردهم، وما زال العالم متواطئا معه في تفتيت سوريا وتحويل شعبها العزيز الكريم إلى شعب جائع متسول، يعيش ثلثه الآن تحت خط الفقر المدقع، فسوريا اليوم بكل تأكيد في منتصف المرحلة الانتقالية، فهي حتما لن تعود سوريا الأسد لكننا لا نعرف على وجه الدقة.. فأي سوريا ستكون؟
قد يحاجج البعض أن "الثورة السورية" قادت إلى أن تصبح سوريا بلدا محطما ودولة فاشلة، ففي تعريف "سيث" للدولة الفاشلة أنها التي تقوم على "تنافس المجموعات على استخدام المؤسسات الرسمية لأغراضهم الشخصية. فإذا ما سيطرت مجموعة ما على أدوات الدولة، فإنها تُقْحِم عناصرها في المناصب الهامة وتبدأ باستنزاف ثروات البلد. وعوضاً عن تشكيل سياسة قد تشجع النمو، تعمل العُصْبَةَ الحاكمة على التحكم بالأصول المالية لتكوين الثروات. وتُقَّيد الأسواق، وتحرم جمهور الناخبين من بعض حقوقها المشروعة وحتى أنها تخدع الأجانب من أجل تقديم مساعدات أكثر. فالمجموعات التي تكون خارج السلطة ترى أن الدولة غير شرعية وتسعى لتجاوزها. وحين يمتد التعاون عبر روابط العشيرة، فإن هذا التعاون غالباً ما يكون لمصالح مؤقتة، مثل تنافس العصابات ذات الخلفيات المختلفة لنيل المكاسب في ظل غياب القانون عموماً داخل المجتمع, ليمتص الأموال من كل شيء، بدءا من مشاريع بناء الدولة مروراً بمناجم الذهب وحتى من الصراعات. في مثل هذه الحالات يمكن التلاعب بتمزق الانتماءات لمكاسب شخصية أو سياسية قصيرة الأمد، مما يؤدي إلى توسيع الفجوة مابين المجموعات".
وهكذا فإن "سيث" يلخص وضع سوريا الأشبه بدولة فاشلة، "فهذه البلدان لا يمكنها إنشاء المؤسسات القوية التي يفترض أن تعطي الدولة حركة سياسية اجتماعية دينامكية وبيئة مؤسساتية غير رسمية، لأن القلة، إن وُجدت، من الشعب إما أن تتظاهر بالولاء للدولة، أو لا يكون لديها أي حافز لاحترام قوانينها، ولا يمكن إصلاح الحكم الفاسد في هذه البلدان بمجرد إحداث خطوات اقتصادية واسعة أو إصلاحات إدارية؛ لأن الخلل الوظيفي فيها بسبب قضايا أساسية عميقة جداً. وبشكل عام، فإن مثل هذه الدول ,في أيًّ من حالاتها، لديها نُدرة في الموظفين الكفوئين والشرفاء الراغبين في دعم نظام موضوعي، الأمر الذي يعتبر متطلباً لازماً لتقديم إصلاحٍ فعال".
إذن فقد قاد حكم الاستبداد الطويل سوريا إلى أن تكون دولة فاشلة عبر تجويف مؤسساتها الرسمية وتحطيم نسيجها الاجتماعي وتفكيكه باتجاه عصبيات قبلية وطائفية وعرقية.
لقد استطاع الأسد تحويل سوريا من بلد ذي تاريخ في الثقافة السياسية الديمقراطية بعد الاستقلال، إلى بلدٍ تسوده العصبية القبلية المتأصلة في الثقافة السياسية التي رعاها وبناها الأسد بهدف تحطيمها، ومن ثم إقناع الجميع بأنه الوحيد القادر على جمعها معاً وحكمها. كما منع الأسد نشوء أي بناء بيروقراطي سياسي لمؤسسات الدولة قادر على كسب ولاء الشعب السوري. وعمّق ذلك عبر تغيير البنى الاجتماعية بفعل سنوات الاستبداد الطويل من خلال إقحام عناصره في المناصب الهامة الأمنية والعسكرية التي بدأت باستنزاف ثروات البلد منذ وقت مبكر. وهذا ما قاد إلى خلل اجتماعي خطير كان من المستحيل على سوريا أن تبقى كما هي بدون تغييره.
فالتركيبة الأمنية والعسكرية التي تحتكرها طائفة محددة، ستولد بدون أي شك -طال الزمن أو قصر- مقاومة تهدف إلى تصحيح هذا الخلل السياسي والاجتماعي، وهذا بالضبط ما يفسر سبب اندلاع الثورة السورية ويبررها، وهو محاولة تعديل هذا الخلل في التركيبة الاجتماعية والسياسية عبر إصلاحه بالوسائل السلمية من خلال المظاهرات التي قادها أبطال لا مثيل لهم عبر التاريخ على الإطلاق.
ففي كل لحظة نكون فيها شهوداً على آلة العنف الأسدية نكون شهوداً على أبطال قرروا الخروج للاحتجاج سلميا وهم يعرفون أن مصيرهم الوحيد هو القتل، لا خيار آخر، لا بديل آخر، ورغم ذلك يستمرون ويستمرون في التظاهر.. هؤلاء سيخلدهم التاريخ السوري بصفتهم أبطال الاستقلال الثاني الحقيقيين.. أبطال ندين لهم في الحقيقة بكل شيء.. بحريتنا وبالأمل الذي صنعوه لنا.
بيد أن الأسد فشل في قراءة مغزى هذه المظاهرات بكل إصرارها وتحديها، الذي لا مثيل له كما قلت، ورفض أن يكون شريكاً للسوريين في تصحيح هذا الخلل الاجتماعي (المتمثل في أن 5 بالمئة من السكان تتحكم بمصير شعب كامل) بالوسائل السياسية والسلمية، فبادر الشعب لتصحيح هذا الخلل بأسوأ الوسائل الممكنة، وهو الخيار الذي استبعده السوريين ورفضوا اختياره ابتداء رغم التضحيات الغالية التي دفعوها، لكن في النهاية أجبرهم الأسد على اللجوء له، ومن خلاله يتم تصحيح هذا الخلل الاجتماعي.
إن وظيفتنا هنا أن نقود هذا التصحيح بكل قوة ممكنة، كي لا يقود إلى خلل آخر تدفع سوريا ثمنه، إذ يكفيها ما دفعت إلى سنوات من فشل وفوضى واضطراب.
من كُتاب "زمان الوصل" - مدير المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية