أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الاستقلالية المزعومة

الاستقلالية مفهوم كسائر المفاهيم الأخرى غير الواضحة أو المحددة في أذهاننا، إذ يقوم الجميع بتفصيله على مقاسهم الشخصي أو الحزبي، تماماً مثلما يقومون بتفصيل الديمقراطية بحسب مصالحهم ونوازعهم، فما يفعلونه يصب في خانة الاستقلالية أو الديمقراطية، وما يفعله الآخرون تبعية واستبداد.

يربط أصحاب الاستقلالية المزعومة مفهوم الاستقلالية بالمال فحسب، وهذا غير صحيح، ويحاولون أن يقولوا لنا أنهم لم يتلقوا المال بأي طريقة، وهذا غير صحيح أيضاً، فالجميع منخرط فيه حتى أذنيه، مع اختلاف الجهات الممولة. لا يوجد في الحقيقة أي جهة أو قوة سياسية لم تتلق المال خلال الفترة الماضية، وهذا كان يجري بطرق مختلفة ولأسباب عديدة. 

ليس هناك ما هو أسهل من الادعاء اليوم، ادعاء البطولة، وادعاء الكرامة، وادعاء النزاهة والاستقلالية، بخاصة في غياب أي شكل من أشكال المحاسبة والشفافية. على أقل تقدير تنبئنا الظواهر الواضحة في الحد الأدنى أن الجميع يسافرون من بلد إلى آخر، وينزلون في الفنادق، ويعقدون المؤتمرات والندوات الموسعة، ويفتحون المكاتب الخاصة بهم، ويبنون المواقع الإلكترونية، وغيرها. كما تنبئنا بأن عدداً قليلاً من الشخصيات المعارضة، سواء التي تعيش خارج سورية منذ زمن بعيد أو تلك التي اضطرت لمغادرة البلد خلال الثورة، يعيش من مدخول العمل الشخصي.

لا يناقش أصحاب الاستقلالية المزعومة نظرتهم الباطنة للمال، وهي نظرة ترتبط أصلاً بالأيديولوجية والموقف السياسي. فالمال الأوربي حلال فيما الأميركي حرام، مع أن كلاهما ينشدان المصالح في العموم. كذلك مال إيران حلال فيما مال الخليج حرام، مع أن للمالين رائحة النفط ذاتها، وكلاهما هدفهما المصالح والمكاسب السياسية وشراء الولاءات وليس الأديان والمذاهب التي تستخدم لتغطيتها. حزب الله مثلاً هو مثال واضح وصارخ على تلقي المال خارج الحدود الوطنية، والأنكى أن قراره السياسي لم يكن في يوم من الأيام وطنياً لبنانياً، بل كان مثالاً صارخاً للتبعية والعمالة. 

لماذا ينظر أصحاب الاستقلالية المزعومة ضمنياً إلى تلقي النظام السوري المال من إيران والعراق بوصفه أمراً مشروعاً، فيما تلقي المعارضة للمال أمراً غير مشروع. السر واضح، وهو أن هؤلاء اعتادوا ألا يعملوا إلا كمعارضة تحت سقف النظام "الشرعي"، وهي حالة من اعتياد الخضوع وانخفاض الطموح، وما زالوا يتعاملون مع النظام الحاكم بوصفه نظاماً شرعياً وممثلاً للدولة السورية والشعب السوري. 

ليس هناك قوة سياسية أو دولة ما إلا وكان المال السياسي حاضراً في حياتها وجزءاً من وجودها، وهذا الأمر يكاد يكون مطلقاً، ولا تصدقوا من يقول غير ذلك. تلقت الثورة الجزائرية المال والدعم العسكري والسياسي من مصر في عهد عبد الناصر، ولم يكن ذلك محطّ نقدٍ في يوم من الأيام. وعندما قدّمت دول الخليج "السلفية" و"الوهابية" لنظام السيسي في مصر 12 مليار دولار خلال أيام، لم تجد هذه المساهمة أي نقد لدى "اليسراويين" و"العلمانيات" المشوهة والزائفة في كل من مصر وسورية. كأنما المال يصبح حلالاً عندما يصب في جيوبهم أو خدمة لمواقفهم السياسية وأيديولوجياتهم فحسب. 

المال السياسي له أشكال مختلفة، فقد يكون مباشراً، وقد يكون غير مباشر، ومن أشكاله "اليسراوية" "الحلال" تقديم روسيا لمنح دراسية خاصة بأعضاء الأحزاب الشيوعية العربية مثلاً، وتدريسهم تخصصات لم يكن بإمكانهم دراستها في بلدانهم، وإعطاؤهم شهادات لا علم فيها ولا عمل لها.

جميع مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان في العالم كله تتلقى مساعدات مالية هي في المحصلة مال سياسي، ومن دون ذلك يكون عملها إصدار البيانات فحسب. أحزاب ما يسمى "الجبهة الوطنية التقدمية" كانت تتلقى مساعدات مالية وامتيازات حياتية من النظام السوري طوال أربعة عقود، وجرائدها لا تطبع إلا بمال يصرف من النظام مقابل مواقف وتوجهات سياسية، وبعضها تسعفه روسيا ومشتقاتها بالمال.

مع ذلك، فإن تلقي المال لا يُعدُّ عيباً بحد ذاته، المهم توافر المعايير والشروط الضرورية لمثل هذه العملية الفائقة الحساسية، أي نظافة اليد وعدم الاستفادة الشخصية، وعدم وضع القرار السياسي إلا في خدمة السوريين وسورية. كذلك، فالسياسة ليست خطية تجاه المال دوماً، بمعنى أن من يملك المال لا يستطيع أن ينفذ سياساته على الدوام، وأن من يتلقى المال ليس من الضروري أن يرضخ لصاحب المال، فقد يكون تقاطع المصالح في لحظة ما هو ما جمع الممول والمتلقي.

حتى لا يصب التمويل في إطار صناعة الفساد والتشجيع عليه، كان يفترض أن يكون هناك قيادة سياسية واحدة للثورة والمعارضة، وكان هذا يمكن أن يشجع الكثير من السوريين في الخارج على تقديم المعونة المالية للمعارضة والشعب السوري، فالثقة بأطر المعارضة مفتقدة بحكم غياب هذه القيادة المركزية الضرورية لإدارة دفة العمل السياسي، والضرورية أيضاً بالقدر ذاته لإدارة المال وتوزيعه. الفساد عنصر ملازم لكل مال سياسي، وقد يكون بسيطاً أو مستشرياً. والفرد عرضة للفساد أكثر من المؤسسة، والمؤسسة المتماسكة والديمقراطية أقل عرضة للفساد من المؤسسة الهزيلة والمفككة أو غير الديمقراطية.

من السهل الوقوف على ضفة النهر وادعاء عدم التلوث. بالطبع إذا كان عملك السياسي اليوم مقتصراً على إصدار البيانات والمواقف لن تحتاج إلا إلى كمبيوتر، لكن إذا كنت تشعر بالسوريين وبمسؤوليتك تجاه تأمين الطعام والشراب للمحاصرين، وتوفير المأوى للنازحين، وتعويض المعتقلين والشهداء، والحفاظ على أمن الملاحقين، وضرورة الاهتمام بأوضاع اللاجئين، وغير ذلك، فإنك ستشحد من أجلهم، وهذا ليس عيباً، بل المعيب هو ألا تشعر بمسؤوليتك وواجبك في التخفيف من معاناتهم. كلمة عبد الناصر الشهيرة في تأميم قناة السويس "مش عيب إني أستلف علشان بلدي، العيب إني أمتص دم الشعوب". 

هناك من هو مستقلٌ بالفعل، فكان مستقلاً عن الثورة، ومستقلاً عن معاناة السوريين، فكانت مواقفه وخطابه أشبه بمواقف وخطاب منظمة حقوقية في سويسرا لرعاية حقوق الحيوان. وهناك من كان مستقلاً، لكنه كان عبداً للأيديولوجية، وآخر كان عبداً لذاته المتورمة وغير مستقل عنها في أي لحظة، فكان هاجسه الأساسي الدخول في صراع شخصي مع هذا وذاك.

المشكلة اليوم هي في الفساد الشخصي والسياسي وليست في تلقي المال، وفي غياب بوصلة وطنية حقيقية، وهذه تختلف بالتأكيد عن بوصلة الشخصية المتورمة أو البوصلة الحزبية الضيقة الأفق أو البوصلة المغطاة بترهات أيديولوجية أو مذهبية أو بالخوف والجبن والهزالة أو بالتشبيح والغوغائية، وقلائل جداً أولئك الذين يتصفون بالنزاهة ولم تغب عن بالهم البوصلة الوطنية في أي لحظة، تلك البوصلة التي تمنع رجل السياسة الوطني في الحد الأدنى من الدخول في معسكرات إقليمية ودولية متصارعة على حساب بلده، بل يعمل لاستغلال جميع المعسكرات لمصلحة بلده. 

(129)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي