نشأة النخبة السياسية السورية
حصلت سوريا على استقلالها التام في 17نيسان/أبريل1946 الذي أطلق عليه عيد الجلاء. وقد كانت النخبة السياسية تتوزع بين أحزاب أيديولوجية متنافسة كحزب البعث والحزب الشيوعي والإخوان المسلمين والحزب السوري القومي الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى الأحزاب التي تفرعت عن الكتلة الوطنية كالحزب الوطني وحزب الشعب ذوي الاتجاه الليبرالي، وقد كان للمثقفين ذوي التكوين الغربي الدور البارز في إنشائها وتأسيسها، لم يكن لمفهوم الدولة حينها في مدارك المثقفين السوريين سوى فهم وظيفي بوصفها أداة لتحقيق الغايات الأيديولوجية، لقد غاب مفهوم الدولة بمعناها المؤسساتي العميق لحساب مفهوم الدولة ـ الأداة التي ستُختصر في ما بعد إلى الدولةـ الجهاز.
وإذا عدنا إلى الأحزاب السياسية ذات الحضور في فترة ما بعد الاستقلال فإننا نلحظ خطين متوازيين ومتعاكسين صعوداً وهبوطاً، ففي الوقت الذي كانت فيه الأحزاب ذات الإرث الوطني في الاستقلال تهبط شعبيتها وتنحدر كانت الأحزاب الأيديولوجية (القومية والشيوعية والدينية) يزداد حضورها ويطغى على غيرها من الأحزاب، فحزب البعث في نواته الأولى لم يكن سوى لقاء بين مدرّسين شابين ميشيل عفلق المسيحي وصلاح البيطار المسلم، وقد تلازما منذ أيام دراستهما في باريس في الثلاثينيات وبادرا بالحديث بين الشباب عن حركة يسارية عربية قومية سميت "حزب البعث العربي"، لكن وإن كان عفلق والبيطار هما المؤسسين الرسميين للبعث. فالراجح أن الأرسوزي الذي سبق له بين1936 و1938 أن قاوم الأتراك في لواء الاسكندرون قبل أن ينتهي لاجئاً في دمشق، هو صاحب فكرة "البعث" وتسميته، وهو بالتأكيد واضع كتاب "بعث الأمة العربية ورسالتها إلى العالم ـ اللسان العربي" منذ عام 1931.
لقد درس الأرسوزي أيضاً في باريس وكانت فرصة بالنسبة له للإطلاع على الأفكار القومية التي كانت تجتاح الفكر السياسي الفرنسي آنذاك، والأمر نفسه بالنسبة إلى عفلق الذي حصل عام 1928على منحة للدراسة في "السوربون" حيث درس التاريخ وتابع اهتمامه بالسياسة فشكّل اتحاداً للطلاب العرب، وتعرّف على تعاليم ماركس، وحضر لفترةٍ اجتماعات الحزب الشيوعي ولكنه لم ينتسب إليه، ثم عاد إلى دمشق حيث درّس مادة التاريخ في ثانوية التجهيز وخلال وجوده في باريس تعرف إلى البيطار وانطلقت عندها فكرة "البعث العربي" الذي يوضح تأسيسه مدى دور المثقفين المحوري في بناء السياسة في سوريا، غير أن البعث لم يكن له حضوره الجماهيري إلا مع التحالف الذي عقده مع أكرم الحوراني صاحب "الحزب العربي الاشتراكي" ليصبح في عام 1952 "حزب البعث العربي الاشتراكي" وعلى حد تعبير نبيل الكيلاني فإن "أكرم الحوراني كان للبعث مثلما كان لينين للماركسية" فالحوراني ولد في حماه عام 1911 وتوفي والده رشيد بمرض التيفوس خلال الحرب العالمية الأولى، وقد كان يعمل تاجراً للأقمشة وملاكاً صغيراً للأراضي، وقد نمى وعي الحوراني بفرد تربطه بعائلته قرابةٌ بعيدة يدعى عثمان الحوراني كان قد شارك في ثورة 1925، وقد أصبحا فيما بعد على رأس حزب الشباب، هذا التجمع الحموي الذي كان مناوئاً للكتلة الوطنية والذي أصبح فيما بعد الحزب العربي الاشتراكي الذي شكّله الحوراني، وقد انتسب الحوراني إلى الجامعة اليسوعية في بيروت لدارسة الطب عام 1931، لكنه وبعد سنةٍ من الدراسة قررَّ عدم متابعة دراسة الطب، وترك بيروت إلى دمشق حيث التحق بجامعتها لدارسة الحقوق وتخرج منها عام 1936، وانتسب في بداية تخرجه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي غير أنه استقال منه بعد سنةٍ فقط من انتسابه إليه، ثم انهمك الحوراني في نشاطه في حزب الشباب الحموي الذي نجح في جعل مدينة حماه تضرب شهراً كاملاً تأييداً لمطالبه ضد حكومة الكتلة الوطنية، ثم سافر إلى العراق للمشاركة في ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941 وبعدها وفي عام 1943 انتُخب الحوراني عضواً في مجلس النواب حيث كان وعيه الأيديولوجي قد تشبّع بالاشتراكية والنضال ضد مصالح البرجوازية والدفاع عن حقوق الفلاحين ضد الإقطاعيين مما أكسبه شعبية كبيرة وسط القطاع الفلاحي وجعل منه مناضلاً سياسياً من الدرجة الأولى، وقد مكنته صلاته مع العسكريين منذ اشتراكه في ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق عام 1941 من لعب أدوار سياسية مختلفة خلال فترة الانقلابات المتعاقبة التي مرت بها سوريا.
لم يكن البعث وحده أيضاً وليد فكرة المثقفين السوريين وتطلعاتهم، وإنما الحزب الشيوعي أيضاً وإن بدرجةٍ أقل، بمعنى أن فكرة الحزب الشيوعي كانت قد انطلقت من لبنان عبر حلقاتٍ للرفاق بدأت منذ عام 1924 حضرها كلٌ من يوسف يزبك وفؤاد الشمالي وارتين مادويان وهيكازون بويادجيان وغيرهم، فقد كان الحضور الأرمنى طاغياً على الحزب بحكم انتشار الفكرة الشيوعية في تلك الأوساط، أما خالد بكداش الكردي السوري الذي ولد عام 1912 من أسرةٍ فقيرة لم يكن لها أي نشاط سياسي، فإنه قد انتسب متأخراً نسبياً إلى الحزب الشيوعي أي حتى 1930، ثم أصبح رئيساً للحزب الشيوعي في لبنان وسوريا منذ منتصف الثلاثينات، لقد درس بكداش الحقوق في جامعة دمشق ثم أُرسل بعدها إلى الاتحاد السوفيتي للدراسة والتدريب، وقد انغمس بالسياسة بشكلٍ عميق خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، وكان له دورٌ مساعد في مفاوضات عام 1936 بين الحكومة السورية وحكومة "ليون بلوم" في فرنسا، ومع امتلاكه لخاصياتٍ شخصية نادرة مثل الخطابة فإن ذلك ساعده على الحضور القوي في الوسط السياسي السوري وأكسبه الاحترام، ورغم خسارته في الانتخابات النيابية لعام 1943 إلا أنه تمكن من الفوز بجدارة عام 1954 الأمر الذي أثار حينها موجةً من الخوف خشية وقوع سوريا في فخ الشيوعية.
أما بالنسبة للإخوان المسلمين الذين يمكن اعتبارهم بمثابة الامتداد أو الوريث لعلماء الدين المسلمين ودورهم في بلاد الشام، فإن إسهامهم في الحقل السياسي لم يكن عبر مشايخ الطرق الدينية أو الصوفية وإنما بدأ مع مثقفين امتلكوا التعليم العصري ونظروا إلى الدين كمساهمٍ رئيسي في ثقافة المجتمع السوري، وقد كان الإخوان ينشطون في المحافظات السورية بأسماء مختلفة، فهم في حلب باسم دار الأرقم، وجمعية الشبان المسلمين في دمشق، وجمعية الرابطة في حمص، وجمعية الإخوان المسلمين في حماه، وقد عقد المؤتمر الأول للإخوان في حمص ثم عقد المؤتمر الثاني والثالث في دمشق في عامي 1937 ـ 1938 على التوالي ثم عقد مؤتمر عام في حلب عام 1944 وأصبح اسم الإخوان المسلمين هو المعتمد بالنسبة لهذه الجمعيات، وتم اختيار الدكتور مصطفى السباعي مراقباً عاماً الذي يمثل الكادر المثقف في الإخوان المسلمين، والذي كان له دورٌ بارز في صياغة خطاب الإخوان المسلمين في لبوسٍ عصري يتوافق مع التعددية السياسية والاختلاف بين التيارات الأيديولوجية المتنافسة، وقد لعب دوراً مهماً في مواءمة الإسلام مع الأفكار الاشتراكية، كما أن مشاركته السياسية في الانتخابات النيابية أقامت جسراً بين الممارسة الإسلامية والحياة السياسية في سوريا، الأمر الذي منع من استغلال الدين كرأسمالٍ رمزي احتكاري للحركات الإسلامية، فالتطبيع الذي أجراه السباعي فكراً وممارسةٍ بين الإسلام والعصر كان له أثره في إثراء الحياة السياسية السورية وتنوعها، ومع فقدان نموذج السباعي في الحركة الإسلامية السورية سيطغى التطرف الفكري ورفض التعددية على قادة هذه الحركة علماً أن المناخ السياسي الذي ساد فيما بعد هو مناخ استبدادي وقمعي حال دون التطور أو النمو لجميع الحركات السياسية الأيديولوجية نحو ممارسة ديمقراطية حقيقية بما فيها الحركة الإسلامية، وإن كانت هذه الحركة الأشد حساسيةً لاستملاكها الموروث الديني القادر على التأثير في شرائح كبيرة من المجتمع السوري.
لقد لعبت جميع هذه الأحزاب الأيديولوجية التي قادها مثقفون بارزون في ما أسماه باتريك سيل "إسقاط الوطنيين القدامى"، فشكري القوتلي لم يكن مثقفاً ألمعياً غير أن سنوات النضال الوطني التي خاصتها ضد الأتراك أولاً ثم الفرنسيين جعلت منه رمزاً وطنياً، وبعد انتخابه رئيساً للجمهورية في 1943 كان سجله الوطني وصيته الذائع وعلاقاته الخارجية وخاصة مع السعودية كل ذلك كان واجهة جليلة مجيدة يستطيع زملاؤه المراوغون متابعة دسائسهم من خلفها والمشاركة في اقتسام الغنائم، الأمر الذي هشَّم هذه الصورة الجليلة عن القوتلي نفسه وعن الكتلة الوطنية، وقد لعبت وفاة سعد الله الجابري في 20 حزيران/يونيو 1947 أحد أكثر رجالات الكتلة شجاعة واستقامة دوراً في تحطيم هذه الصورة كما لعبت مراوغة القوتلي من أجل تعديل الدستور بغية انتخابه رئيساً للجمهورية خمس سنوات أخرى مما أظهر مدى حبه في التمسك بالسلطة والنفوذ مهما كانت الأسباب، لعبت دوراً في القضاء على صورة الكتلة الوطنية تماماً أمام الجماهير، ولم يُفلح توحد شتات الجناح الحاكم من الكتلة في "الحزب الوطني" في استعادة الألق المفقود، فرجال الحزب الجديد، القوتلي وفارس الخوري ولطفي الحفار وصبري العسلي وغيرهم لم يتمكنوا من طرح أي برنامج مفصل، ولم يمتلك الحزب أيَّة بنية تنظيمية متماسكة، وإنما اعتمد فقط على الخصائص الفردية التي يتحلى بها قادته وعلى سحر سجلهم الوطني وتدعمّها بالأحوال العائلية والارتباطات بالأحياء البلدية المختلفة، أما الجناح المنشق من الكتلة فقد تألف من كتل برلمانية مفككة كالكتلة البرلمانية الدستورية والكتلة البرلمانية الشعبية، حيث قادها في البدء زعماء حلبيون أمثال رشدي الكيخيا وناظم القدسي ومصطفى برمدا، فكان هؤلاء يتمتعون لنزاهتهم الشخصية بسمعةٍ جيدة تفوق ما يتمتع به منافسوهم زعماء الحزب الوطني، وقد استقالوا، على الأغلب، من الكتلة في عام 1939 دون أن يستمتعوا بثمار المناصب في الدولة، ولكن هذه المعارضة اتحدت في آب/أغسطس 1948 وشكّلت "حزب الشعب" الذي كان يمثل المصالح التجارية في حلب والمنطقة الشمالية، وقد اكتسب الحزب تأييد عائلة الأتاسي الإقطاعية ذات الأملاك الشاسعة، حيث تركزت اقطاعتهم في حمص، وقاومت، على حد سواء، حكم القوتلي والساسة الدمشقيين، فقد أصبح ينظر إلى "الحزب الوطني" كحزب يعكس السياسة الدمشقية بأضيق صورها، أي كتعبير عن مصالح ونفوذ العائلات الدمشقية ذات الملاكات والإقطاعات الواسعة أو ذات الإرث العائلي القديم، كل ذلك أفرز خارطة مختلفة تماماً في انتخابات 1947 التي تعتبر أول انتخابات ديمقراطية حقيقية في سوريا حيث نجح حزب الشعب بالتحالف مع حزب البعث في حصد أغلبية بلغت 53 نائباً مقابل 42 نائباً للحزب الوطني وكتلة كبيرة من المستقلين وصفها سيل بأنها كتلة مائعة لا تنتسب إلى أي حزب ولا تعبر عن أي عقيدة.
وقد تمكن شكري القوتلي زعيم الحزب الوطني آنذاك من الوصول إلى السلطة بعد هذه الانتخابات البرلمانية ليكون أول رئيس لسوريا بعد الاستقلال على الرغم من أن حزبه لم يكسب إلا 24 مقعداً من مقاعد المجلس الذي كان عدده 135 مقعداً، لكن تعاون معظم المستقلين الواحد والخمسين مكّن جميل مردم بك من تشكيل الحكومة وتمكن القوتلي من إقناع البرلمان بتعديل الدستور لإتاحة الفرصة أمامه للترشح من جديد لدورة رئاسية مدتها خمس سنوات، وقد تم له ذلك في 18 نيسان 1948 وليدشن عهد التعديلات الدستورية بما يتناسب مع الرغبات الرئاسية. لقد شكل المستقلون غير المنتمين لأي حزب سياسي ظاهرة من ظواهر الحياة البرلمانية السورية، كما و شكّلوا أرضاً صالحة للانتهازية السياسية حتى اختفاء البرلمان السوري عام 1958، وقد كان هؤلاء من ملاك الأراضي ورجال الأعمال وزعماء القبائل والأقليات ورؤساء العائلات الكبرى البالغة القوة، وهم بعددهم الكبير في جميع الانتخابات السورية يشهدون على قوة أشكال الولاء المحلية والتقليدية وضعف التنظيمات الحزبية.
بيد أن هذه الانتخابات عكست من وجهة أخرى قدرة النخبة السياسية السورية المبكرة على إدارة صراعاتها بالأسلوب السلمي والديمقراطي ، وأظهرت مدى النضج الذي تتحلى به هذه النخبة لجهة احترامها لسيادة القانون عبر الاحتكام إلى صندوق الاقتراع.
وهي وإن أشرت إلى هشاشة المؤسسات التي تم بناؤها بعد الاستقلال وعمرها القصير إلا أنها عبرت عن مدى رغبة النخبة السياسية في تمثّل التجربة الغربية الليبرالية في بناء مؤسسات الدولة بأسلوب ديمقراطي.
كان لهزيمة القوات العربية في الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى في عام 1948 أثرُ مباشر على الحياة السياسية في سوريا، أسفرت عن استقالة وزير الدفاع أحمد الشرباتي، حيث أظهرت الحرب ضعف الجيش السوري الناشئ حديثاً، وثارت القلاقل مما أدى في النهاية إلى استقالة حكومة مردم بك في 2 كانون أول 1948، ولم تُفلح حركة القوتلي في استدعاء خالد العظم المليونير والخبير في الشؤون المالية وأحد وجهاء دمشق، إذ ينتسب إلى عائلة دمشقية عرفت بالثراء والوجاهة، لم يُفلح استدعاءه من باريس في تخفيف الاحتقان السياسي.
لقد استعد خالد العظم لمعالجة عدد من الأمور من أهمها السياسة المالية النقدية لسوريا والعلاقة المالية مع فرنسا، وتوقيع اتفاقية خط أنابيب النفط (التابلاين)، لكن إعلان حكومة العظم في 20 آذار/مارس 1949 مشاركتها في مباحثات لعقد الهدنة مع إسرائيل وذلك بعد أن دخلت في المفاوضات كل من مصر ولبنان والأردن، أفقدها شعبيتها لدى السوريين، الأمر الذي عجّل بالانقلاب العسكري الأول الذي قاده حسني الزعيم في 30 آذار/مارس 1949، والزعيم وُلِدَ عام 1894 من عائلة كردية، وكان ضابطاً في الجيش العثماني وقد حُكِمَ عليه عام 1942 خلال خدمته في الفيلق السوري بالسجن لمدة عشر سنوات بعد اتهامه بسرقة 300 ألف ليرة سورية من حكومة فيشي التي وجدت في دمشق خلال فترة الحكم النازي في فرنسا، وقد أصدر القوتلي عفواً عنه وأعاده إلى منصبه، ومهما كانت الأسباب المباشرة وغير المباشرة لانقلاب الزعيم فإنه قد دشّن عهداً من التدخل العسكري في الحياة السياسية السورية،
ولعب دوراً ممانعاً في تطور الحياة الدستورية، وإذا كان الانقلاب الأول قد حَظِيَ بتأييدٍ شعبي بسبب ما عاناه السوريون من اضطرابٍ وفسادٍ في عهد الأحزاب السياسية وصراعاتها العائلية والشخصية، فإن عهد رجالات الاستقلال كما أصبح يُطلق عليه كان قد انقضى، لقد اكتسب هؤلاء الرجال خبرتهم السياسية من خلال مقاومة الانتداب ومقارعته، لم يكونوا بالخونة كما أطلق عليهم خلفاؤهم أحياناً، ولكن الظروف لم تُتح لهم كي يتعلموا حرفة "بناء الدولة" فكانوا مجموعة من الساسة لا جذور عميقة لها بين الشعب، وقد حرمتها سياسة دولة الانتداب من التمرس في الشؤون الحكومية، وتقاسمت السلطة بعد الاستقلال بالأسلوب التقليدي، مع إدراك وفهم قليلين لما تعنيه حكومة نيابية شعبية الأسس.
ولكن، ما ينبغي التوقف عنده هنا هو موقف النخبة السياسية من الانقلاب العسكري بوصفه إجراءً يتعدى العمل السياسي ويتيح للجيش حرية التدخل في السياسة لأول مرة في الشرق الأوسط، من الممكن القول إن الإجابة تحمل كثيراً من الأسف، فمعظم المثقفين المنخرطين في الأحزاب السياسية الأيديولوجية اتخذوا مواقف مؤيدة ومشجعة لانقلاب الزعيم، ففضلاً عن العلاقة التي ربطت أكرم الحوراني بالزعيم، فإن عفلق الذي أرسل رسالة اعتذار من سجنه يعتذر فيها عن معارضة حسني الزعيم ويستجدي إطلاق سراحة اعتُبرت بمثابة الإهانة لحزب البعث نفسه، أما الحزب الشيوعي فقد بدا مؤيداً في البداية على الأقل لتخليص الشعب السوري من "الطغمة البرجوازية الحاكمة"، بل إن بعض الصحف الدمشقية طرحت فكرة الحكم العسكري بوصفه يتمتع ببعض المزايا الإيجابية فقالت "ليس هناك شك أن سوريا ستفقد القليل من حريتها، ولكن حاجة الدول الناشئة للانضباط هي أكثر من حاجتها للحرية".
وكانت أغلب تعليقات الصحف مؤيدة للانقلاب، بل إننا لا نجد موقفاً واحداً لمثقفٍ سوري بارز في تلك الفترة أدان مبدأ الانقلاب على الشرعية الدستورية، بل نجد جميع المواقف تصبُّ في نعي عهدٍ سابق ذهب غير مأسوفٍ عليه، الأمر الذي يعكس مدى هشاشة الثقافة السياسية والدستورية التي كان يتحلى بها المثقفون السوريون، وطبيعة نظرتهم إلى الدولة بوصفها مجرد أداة للوصول إلى الحكم.
لقد أصدر الزعيم في نهاية أيار/مايو 1949 مرسوماً بحل الأحزاب السياسية وإجراء استفتاء في 25 حزيران/يونيو كان الزعيم فيه هو المرشح الوحيد وانتخب على إثره رئيساً للجمهورية، وأسبغ على نفسه لقب المارشال وكلف محسن البرازي بتشكيل الحكومة.
لكن انقلاب الزعيم لم يدم طويلاً ـ 137 يوماً ـ إذ أعقبه انقلابٌ آخر بقيادة سامي الحناوي في 30 آب/ أغسطس 1949 أعاد حزب الشعب إلى الواجهة السياسية، غير أن ذلك لم يدم طويلاً أيضاً. إذ قام أديب الشيشكلي بانقلابه الأول في كانون الأول/ ديسمبر 1949 بهدف قطع الطريق على المفاوضات السياسية التي يقوم بها حزب الشعب للاتحاد مع العراق، غير أن الشيشكلي سيقوم بانقلابٍ آخر في 1953 ليصبح بموجبه رئيساً للجمهورية بعد أن كان قد عيّن فوزي سلو رئيساً صورياً، وقد سمح الشيشكلي من خلال سيطرته العسكرية التي كانت بحاجة إلى دعم إقليمي ودولي باستمرار أن تمد سيطرتها ونفوذها لتتدخل في تقرير السياسات الداخلية وفي حسمها.
وبنهاية شباط/فبراير 1954 تمكّن تحالفٌ بين السياسيين القدامى وعسكريين متضررين من الانقلاب على الشيشكلي وإعادة الحكم الدستوري، وقد كانت الخطوة الأولى التي قام بها خلفاء الشيشكلي هي إعلان عدم شرعية عهده الطويل، حيث نُبِذَ دستوره الذي وضعه عام 1953 وأعيد دستور عام 1950، وفي محاولةٍ لمسح الماضي القريب من الذاكرة قَبِلَ هاشم الأتاسي رئيس الدولة الجديد استقالة الدكتور معروف الدواليبي رئيس الوزراء، الذي طرده الشيشكلي حين قام بانقلابه الثاني في كانون الأول/ديسمبر 1951، وتم استدعاء صبري العسلي، الأمين العام للحزب الوطني، وتم تكليفه بتشكيل الحكومة.
يمكن القول إن دولة الاستقلال الناشئة لم تحصل على استقلالها الكامل بما تعنيه الكلمة من حصول استقلال اقتصادي ومالي، إذ بقي اقتصادها تابعاً على ما جرى في تقرير السياسة السورية النقدية وهذا ما أثار الشارع السوري باستمرار، كما أن السياسات الحزبية الضيقة أضعفت الدولة ومنعت من ظهور مؤسسات تحمي الدولة ومراكز قرارها من داخلها، وستأتي الانقلابات العسكرية بدءا من انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار/مارس 1949 وانقلاب سامي الحناوي وأديب الشيشكلي فيما بعد لتضع الدولة في مهب الريح ولتقودها المصالح الفئوية الضيقة للمستفيدين منها، وستقضي الإجراءات الانقلابية على ما بقي من إرث دولة الاستقلال.
إن تدخل الجيش في الدولة الناشئة كان ذا أثر كبير، إذ منع من تطور سياستها المدنية ومن حسم خياراتها الداخلية ضمن ساحة البرلمان وفي ضوء دائرة الحوارات السياسية المتعددة، إذ سيلعب الجيش في سوريا وفي الكثير من دول العالم الثالث دور لاعب الارتكاز في تقرير السياسة الداخلية وهذا ما سيجعل المجتمع المدني يتضاءل لحساب المجتمع العسكري الذي سيبتلع المجتمعين المدني والسياسي معاً.
إلا أن ما سيترك الأثر الأعمق هو انعكاس ذلك على الثقافة والتربة المدنيتين، فيما يسمى إعادة التراتب الاجتماعي وقد تعزز ذلك مع الضغط النفسي المرافق، إذ نشأ طغيان للثقافة العسكرية على الثقافة المدنية، وهو ما أثّر على انحسار الشعور المدني بضرورة المشاركة والتفاعل في الاهتمام بالشأن العام.
مدير المركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية - من كتاب زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية