أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"جنيف2" وفرصة الضمير الأخيرة... بشار عبود*

لا أعتقد أن موطنين سورييّن يختلفان على ضرورة وأهمية أي حوار ينهي سفك الدم اليومي في وطني، ولا أعتقد أنهما ضد أي حوار ينهي أوجاع أبناء وطني الذين لم يعودوا قادرين على تحمّلها كشعب، كما لا أعتقد أن أي مواطن سوري حر يمنع ولو بالرأي وجود حوار ينهي هذا التهديم غير المسبوق لبنى الوطن التحتية والفوقية.. 

لكن، وإن كنا مع كل ما سبق، فهل هذا يعني أن تجلس المعارضة مع النظام على طاولة الحوار بدون شروط؟
إن كان سيتم لقاء جنيف 2 بدون أي شرط، وهو ما يدعو إليه النظام كل يوم، فأستطيع أن أتفهم ذلك من قبل نظام اعتدنا منه المماطلة والتسويف والغدر والمناورة واللعب على عامل الزمن لتحقيق مبتغاه.. 
لكن أن تقبل المعارضة بكل أطيافها في مثل هذا الحوار بدون شروط أو حتى ضمانات دولية تحقق من اللقاء المرتقب، المطالب الثورية لشعبنا، فأعتقد أن المعارضة في هذه الحالة ستكون أمام موقفين لا ثالث لهما.. إما هي معارضة غير مسؤولة وغير فاعلة ومأمورة وغير معنية بالشأن السوري، وإما هي معارضة لا تزيد عن كونها الوجه الآخر للنظام الذي من المفترض أنها تحاربه وبالتالي هي معارضة مخادعة للشعب الذي نهض بثورته من أجل تحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. 

عندما بدأ الشعب السوري ثورته في آذار/مارس 2011م، كانت ثورة على الظلم والفساد والحكم الأمني وسيطرة الحزب الواحد وووو من الأسباب التي لم تعد خافية على أحد، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر الآن أنها (الثورة)، تمر في أكثر مآزقها خطورة، بتحولها إلى أزمة إقليمية ودولية من جانب، وتصعيد غير مسبوق لحرب أهلية غير معلنة من جانب آخر. 

لذلك لا بد من توافر القوة والقدرة لتحمل المسؤولية الوطنية والأخلاقية والإنسانية لتأمين الحد المطلوب لشعبنا الذي دفع ولا يزال أثماناً باهظة جداً في سبيل نيل حريته وكرامته المهدورة طيلة أكثر من نصف قرن، وهذا لن يتوفر إلا من خلال شخصيات وطنية تحمل في جيناتها صفة رجال أو سيدات دولة، يعون جيداً دهاء وخبث الطرف الذي يحاورونه، ويكونوا قادرين على إقناع العالم بعدالة مطالب الثورة لشعب خرج من أجل نيل حريته، ولم يتحرك لأجل تفريخ تنظيمات إرهابية وإسلامية متطرفة تسعى لاستبدال الظلم بالظلام. 

ولو سألنا عن الأرضية التي من الممكن الوقوف عليها كطرف محاور، فإنني أرى أنه يجب أن يكون من خلال التعامل مع النظام كطرف آخر مفروض وجوده على الأرض السورية، وعلينا كمعارضة أن نقبل به كشريك لا بد منه من أجل إنقاذ بلدنا وحقن دمائنا ووقف عملية الهدم الممنهجة التي فاقت التوقعات والتصورات وكل حدود للعقل البشري. 

ولا عيب في ذلك، طالما أن الهدف نبيل وهو الغاية التي علينا أن نصلها بشجاعة وفروسية، وهذا يفرض علينا وقفة تاريخية مع أنفسنا للاعتراف بالكارثة التي حلت بسوريا شعباً ووطناً، وهذه مسؤولية تقع على كل من يتصدر المشهد السياسي السوري، (أفراداً وهيكليات سياسية)، كونهم يمتلكون الحد المطلوب من وسائل القوة والشرعية الدولية، وهذا غير متاح لغيرهم من الناشطين والثوار. هذا ثمن علينا دفعه برجولة وكبرياء، طالما أنه ليس بالإمكان غير ذلك لا على المستوى الدولي ولا على المستوى الإقليمي، ونحن شئنا أم أبينا أصبحنا مرتهنين لهما من أجل إيجاد حل يسهّل الحياة على شعبنا المنفي والموجوع داخل وخارج أرضه. 
إن الذهاب إلى "جنيف2" يجب أن لا يكون من أجل تحقيق مكاسب شخصية، أو من أجل الحصول على مكافأة مالية، أو جائزة ترضية تعيد جزءاً من الحقوق المسلوبة لشعبنا.. وإنما يجب أن يكون الحضور في تلك المدينة الباردة لكي نعود منها بشيئ من الدفء والطمأنينة لشعبنا بقرب عودته إلى وطنه ومدنه وقراه. يجب أن يعود من سيحضر ذلك المؤتمر بسوريا واحدة وموحدة غير قابلة للتقسيم مهما كان الثمن، وهذا بحد ذاته يعتبر مسؤولية تاريخية ووطنية لن يعارضكم فيها أحد من المنتمين للثورة أو الصامتين عن جرائم النظام، أو حتى الموالين له، فالكل تعب والكل أُرهق والكل أصبح يطالب بإنهاء هذا الوجع. 

سوريا لن تكون ملكاً لعائلة بعد الآن، وسوريا لن تكون ملكاً لطائفة بعد الآن، وسوريا لن تكون لفئة سياسية تكون قائدة للدولة والمجتمع تقصي الآخرين بعد الآن.. سوريا ستكون ملكاً للجميع بلا استثناء.. وواجباً على الجميع أيضاً بلا استثناء. 

سوريا ستكون لجميع أبنائها في الواجبات والحقوق، وهذا لن يتم إلا بدولة المواطنة الحرة والمدنية والديمقراطية، التي تستند على إرث أكثر من 14 ألف عام من الحضارة وتصدير القيم.. هذا ما يجب عليكم أن تعودوا به من طاولة الحوار المرتقبة. 

"جنيف2" بالنسبة لكل من سيحضره من جانب المعارضة، كما من جانب النظام سيكون فرصة أخيرة لتحسين صورتكم أمام الشارع السوري الثائر مهما كان انتماؤكم ومهما كانت طائفتكم، عسى بذلك ترتاح أرواح شهدائنا في نيل أبنائهم وأخواتهم وكل من بذل غالياً في سبيل هذه الثورة حريتهم وكرامتهم وعدالتهم.

*كاتب وصحافي سوري
(115)    هل أعجبتك المقالة (114)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي