أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الصندوق الأسود ...د: نبيل طعمة

 

في حياة كل فرد منّا ذكراً أم أنثى جوانب مظلمة تعيش داخل العقل والقلب، لا يستطيع أي كائن آخر أن يطلع عليها، أو يقرأ مدوناتها إلا في حالة واحدة، وهي أن يضيء، أو يتحدث المرء، حاملها عنها، أو يوجه إليها الضوء ليرى ما بداخله، هذه الجوانب تشبه الصندوق الأسود الموجود في الطائرات، والمركبات الخاصة، والمراكب السريعة، والسفن التجارية، والسياحية، والعسكرية، وللعلم إن اسم الصندوق الأسود ينطبق على المعلومات التي بداخله، حيث إن لونه أحمر، ومهمته أن يسجل الأحداث المهمة، واللحظات الأخيرة عند كل مهمة، أو رحلة، والشبه الوحيد بينه وبين الإنسان، تسجيله للقضايا السيئة، مثل الأعطال الطارئة، والحوارات السالبة، وما يجري عند أي هبوط، أو توقف اضطراري، أو حدوث الانفجار النهائي، والتحطم الكلي، فهو لتسجيل كل السواد الذي لا يأمل حدوثه أي إنسان على عكس الصندوق الأبيض، أو الزجاجي، شفاف مرئي، بإمكانك الدخول، والخروج منه، والاطلاع على محتوياته، مثل الإنسان الشفاف المتصالح مع ذاته، والمتوحد معها .لقد تم تصنيع الصندوق الأسود بشكل دقيق جداً، ومن سبائك معدنية خاصة تستطيع تحمل الارتطامات القوية، والتحطم، والانفجارات، بحيث يتحطم ويحترق كل شيء، ليبقى حاملاً كل الذكريات، وكل المدونات إنه مثل صندوق الإنسان الخاص، والفرق بينهما أن الأول تستطيع أن تقرأه، والثاني تأخذه معك إلى العالم الآخر لا يدري عنه أحد سواك، والسؤال الذي يطرح نفسه، ونحن نجري هذه المقاربة ما بين الصندوق الأسود المادي، والصندوق الأسود الإنساني بشقيه المادي والروحي، وغايتنا الصندوق الإنساني، وما حمله عبر سني عمره، فهل هو الذاكرة السوداء؟ لكون كل إنسان لديه ذاكرتان، واحدة بيضاء، يحبها ويعمل عليها طيلة عمره، وبها ذاكرة سوداء هي الأحداث المفاجئة، والارتكابات الخاطئة الخاصة به وبالآخرين، والتي تسجل بين حنايا الذاكرة البيضاء، فتؤرقه بين الفينة والأخرى، فما مرّ في مرحلة الطفولة ينسى، إلا الأفعال القوية تسجل، ومرحلة المراهقة والبلوغ وطيشها وعبثيتها بكل تنوعاتها التي تحمل الشقاوة، والرصانة، والجنس، والعادات السيئة، والإيجابية، والاندفاعات في البحث عن الحب، والعمل، والتكوين، والبناء، كل ذلك يسجل ليكون ذاكرة فيها الجميل، وفيها السلبي، عند سنين الإدراك، والعقل، والرجولة، ومنهم من يحملها إلى الشيخوخة، أما أحداث الوعي والعقل، فهي أخطر ذاكرة تدخل صندوقنا الأسود، نخفيها إن كانت سلبية، ولا يمكن أن نفصح عنها، ندخلها قسراً في مسيرة حياتنا، ولا نستطيع التخلص منها، فهي التي تعمل على توترنا، لكون صورتها سوداء، ومهما حاولنا تناسيها لا تنسى، وحلها الوحيد حسب حجمها الاعتراف أو إصلاحها، حيثما فعلت أو ارتكبت إن كانت بحق إنسان ذكراً كان أم أنثى، أو بحق مجتمع، أو بحق مادة، أو حيوان، أو نبات .على الرغم من أننا نعلم أن الإنسان عند انتقاله، لا يأخذ معه سوى عمله المتخفي بين أضلاعه، لكون العلني منه يعلمه الناس أجمع سلباً أم إيجاباً ويتحدثون به  عنه مديحاً أو ذماً، إلا أن الصندوق الأسود الحقيقي يبقى معه، تحمله روحه وتجول فيه، وللأسف لم يعد من ذلك العالم أي أحد، يحدثنا عن صندوقه .إن فلسفة التكوين الفكري أوجدت علومها بغاية تخليص الإنسان من صندوقه الأسود، وهي تعمل على ترتيب العلوم الإنسانية، هدفها صناعة فكر الإنسان، والابتعاد به عن الخطيئة والخطأ قدر الإمكان، وأيضاً إن تجاوب معها الإنسان وفهمها، صالحته مع ذاته، فزادت خيره، وأنقصت من شره، معنى هذا أنها تعمل على تخليصه من هذا الصندوق الموجود فيه قسراً، فهي تريد إفراغه وعدم تدوين أي شائبة، أو خطأ قصدي، أما الأفعال العفوية ذات الأخطاء الطبيعية التي تمر في حياة الإنسان، فهذه لا بد من حدوثها لكون الإنسان يسعى إلى الكمال، وفي رحلة سعيه، يتعثر، ويرتبك، ولن يصل، فسعيه هو الذي يأخذ به إلى الخطيئة، وارتكابها سالباً فالإيجابي إلى الصندوق الأبيض، وهو صندوق الحياة المستمرة حتى بعد الانتقال، والسلبي إلى الصندوق الأحمر الذي توضع به الأعمال السوداء، والذي نسعى جميعاً للتخلص منها .

عن الأزمنة
(108)    هل أعجبتك المقالة (103)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي