الذهاب إلى الجحيم
هل يمكن لطائفة شطب طائفة أخرى من الوجود؟ وهل استطاع أحد ذلك عبر التاريخ؟ مهما بلغت قوة الراغب في الشطب، ومهما بلغ ضعف المحكوم عليه بالشطب؟
هل يمكن السيطرة على حرب طائفية يقف خلفها آلاف القتلى وأنهار من الدماء ومخزون هائل من الأوهام والأكاذيب والأحقاد والمظالم..؟ وتدور في بلد متخلف لا يملك آليات التحكم والسيطرة من علم وعقل وحضارة ومؤسسات ومجتمع مدني وحكم وطني رشيد..؟ وتنفخ فيها مافيات حاكمة وأمراء حرب ودول عربية وإقليمية..؟
وهل أسفرت حرب طائفية عبر التاريخ عن انتصار طرف وهزيمة آخر؟ أم أن الجميع خرج منها خاسرا منهكا مثخنا بالجراح؟ أرجعوا إلى التاريخ...
لقد دمرت حرب الثلاثين عاما التي دارت في أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك بين عامي 1618 و 1648 مدنا أوروبية بأكملها، ومسحت آلاف القرى عن بكرة أبيها، وخسرت فيها ألمانيا بمفردها ثلث سكانها البالغ آنذاك عشرين مليونا، وخرج منها الجميع منهكا، حتى من حسمت المعارك لصالحهم، أي فرنسا والسويد، ورغم أنها انتهت بمعاهدة سلام عام 1648 إلا أن آثارها استمرت حتى القرن الماضي رغم عظمة الحضارة الأوربية وتقدم مجتمعاتها.
وفي منطقتنا تدور رحى صراع سني شيعي انطلق منذ ألف وثلاثمائة وخمسين عاما وما زالت جذوته متقدة... ويبدو انه لن ينتهي إلا بحروب تحصد الملايين وتعيد بلادا كثيرة إلى العصور الحجرية..
والآن نراقب جميعا تصاعد الأزمة الطائفية في سوريا بين الطائفتين السنية والعلوية، ونرى بأم أعيننا كيف وصل الاستقطاب بينهما إلى الحدود القصوى، وكيف بدأت الدماء الطائفية تسيل من الجانبين، وهي تنذر بآلاف الضحايا وبتقويض كل مقومات الدولة والمجتع إذا لم يحصل ما يوقف أسبابها.
ولكن ما العمل؟ والأطراف القادرة على إطفاء النيران الطائفية هي من قام بإشعالها وهي من يقوم بإزكائها على مدار الساعة؟
لقد استخدم مؤسس النظام، حافظ اسد، اللعبة الطائفية منذ العام 1970 كوسيلة فعالة من وسائل السيطرة والتحكم بمكونات المجتمع من جانب، وكوسيلة لثبيت حكمه وتأبيده من جانب آخر، فجعل الأقليات تشعر أنها تنال حقوقها وتعيش حياتها بفضله وحمايته، وجعل الطائفة العلوية تشعر أن وجودها وكرامتها مرتبط بوجوده، فالتفّت حوله وربطت مصيرها بمصيره.
ثم جاءت الثورة، وما كان أمام النظام من فرصة للبقاء إلا بتأجيج الصراع الطائفي ودفعه إلى أقصاه، إضافة إلى دفع الثورة نحو العسكرة والعنف، وقد أصاب نجاحا كبيرا في مسعاه على كلا المسارين.
وفي الطرف المقابل نجد أن هناك من وقع في الفخ وانجر إلى اللعبة الطائفية عن جهل وقصر نظر، وهناك آخرون مثل النظام، وجدوها فرصة لتحقيق مصالحهم ( الثروة و/أو السلطة )، أو لإقامة مشروعهم الديني ( الدولة الإسلامية ).. فما العمل إذن؟ ومن يقف أمام هذا السيل الطائفي الجارف؟ ومن يستطيع إقناع رؤوس حامية يتصاعد منها الدخان، وتهدئة نفوس حاقدة تتملكها الرغبة في الانتقام؟
منذ بداية الأزمة حذر الكثيرون من نوايا النظام في تسعيير الصراع الطائفي، ومن مخاطر الانجرار في هذه اللعبة القذرة، لكن دوافع السقوط والانجرار كانت أقوى بكثير، وكان استفزاز اشخاص عاديين وتوريطهن في ردود فعل طائفية أمرا سهلا، وكنا نراقب بعد كل مجزرة طائفية كيف تجتاح الطرف المقابل موجات الغضب العاتية والرغبة في الانتقام، وكيف تختفي الأصوات العاقلة تحت طائلة رميها بالتكفير والتخاذل واسترخاص دماء الشهداء.
كيف يمكننا في هذا السعار المحموم أن نفعل شيئا؟ كيف يمكن وقف هذا الزحف الأعمى نحو الجحيم؟ والكل أصبح مقتنعا بوجود النوايا الشريرة لدى الطرف الآخر، ويملك البراهين الدامغة على تورطه؟ والأسوأ والأخطر من كل ذلك هو أن كل طرف يعتبر الطرف الآخر ( الطائفة الأخرى ) كتلة واحدة لا تتجزأ، فأهل السنة يرون في كل العلويين جزءا من النظام الذي يقتلهم، ومن المشروع الشعي الذي يستهدفهم، والعلويون يجدون في كل أهل السنة أعداء لهم، يزدرون دينهم، ويحللون دمهم، ويسعون لإبادتهم.
لا أملك أجوبة على ما طرحته من أسئلة، ولا أملك حلولا سحرية لهذه الكارثة، وكل ما أستطيع قوله أن الحل يكمن في امتلاك الوعي والعودة إلى العقل والتفكر والتبصر في أبعاد الأمور ومآلاتها وأثمانها وانعكاساتها على المستقبل القريب والبعيد.
لو كنت مكان السني المؤمن لتفكرت أولا بحديث رسول الله "إذا وقع السيف في أمتي لم يرفع إلى يوم القيامة" في إدراك عميق من الرسول لأبعاد الفتنة الطائفية ونتائجها الوخيمة التي لا تمحوها السنون.
ولو كنت مكان السني العاقل لوضعت نفسي مكان العلوي ورأيت الأمور من زاويته:
- فتاريخ العلويين هو قصة ظلم واضطهاد وخوف وهروب، فقد عانوا الأمرين أيام الحكم العثماني، مما اضطرهم إلى السكنى في الجبال هربا من الاضطهاد، وانعكس سخطهم على العثمانيين سخطا على أهل السنة لارتباط الخلافة بالسلطنة، واستمرت معاناتهم بعد خروج العثمانيين لأسباب مختلفة، اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، حيث عانوا أيضا من الظلم والإهانة والاحتقار من قبل ملاك الأراضي والإقطاعيين وأهالي المدن، ولم يشعر العلويون أنهم كائنات بشرية بحقوق بشرية إلا بعد وصل البعث إلى السلطة، ثم وبشكل خاص بعد استيلاء الأسد الأب على السلطة عام 1970. وما زالت ذاكرتهم الجمعية مشغولة بأيام الفقر وقصص الذل والاضطهاد، ومستعدون لفعل أي شيء لمنع عودة تلك أيام.
- ويصيب العلويين من إرهاب النظام أضعاف ما يصيب غيرهم، ولا يجرؤ أحدهم على المجاهرة برأي مخالف أو الإتيان بتصرف مناهض تحت طائلة السحق والتنكيل.
- والعلويون تاريخيا يعانون الفقر ويطاردون لقمة الخبز، ولا يملكون الثروة والموارد، وقد فتح لهم الأسد أبواب التوظيف في مؤسسات الدولة والتطوع في المؤسسات الأمنية والشرطة والجيش، فأصبح لهم دخول ثابتة ونفوذ وقيمة، والآن هناك تهديدات (تعمل محطات التقوية على تضخيمها عشرات الأضعاف) بحرمانهم من تلك المكاسب، وإعادتهم إلى حياة الفقر والعوز.
- والعلويون يراقبون ما يجود به عباقرة الطرف الآخر من تهديدات بالإبادة والسحق، ويراقبون شبابهم يعودون إليهم ضمن صناديق خشبية، يترافق كل ذلك مع لمسات النظام وإخراجاته الخبيثة التي تضفي على المشهد أبعادا خرافية، فعندما أطلق شعار "العلوي عالتابوت والمسيحي عبيروت" لأول مرة في اللاذقية من قبل مجموعة صغيرة، حرصت آلة النظام على إسماعه لكل علوي عشرات المرات.
ولعلي، كسني، بعدما شاهدت ما شاهدته من زاوية العلوي أستطيع فهم هواجسه وردات فعله وانحيازه إلى جانب نظامه، وألتمس له بعض الأعذار التي قد تخفف من شدة حقدي عليه.
ولو كنت مكان العلوي العاقل لوضعت نفسي مكان السني ورأيت الأمور من زاويته:
- فالسنة يشكلون الأغلبية بنسبة تزيد عن 70% بينما يحتكر العلويون ونسبتهم بحدود 10% كل مواقع السلطة والقرار الحقيقية.
- والعلويون يُحكمون سيطرتهم على الأجهزة الأمنية بشكل مطلق، وعبرها يُحكمون السيطرة على حياة الناس ويحصون أنفاسهم، ويفرضون عليهم الطاعة والخوف والذل والأتاوة، والجميع مجبر على نيل رضاهم، ولهم في المعتقلات صولات وجولات، وإبداعاتهم في إذلال الناس وتعذيبهم ملأت الآفاق.
- والعلويون يسيطرون على معظم ثروات البلد واقتصاده وشركاته، ويشاركون أو يستولون على أي مشروع يريدونه، ولا يتركون إلا الفتات للآخرين.
- والعلويون يحظون بالوظائف والترفيعات والمنح والسفرات أكثر من غيرهم بكثير، فهاهم على سبيل المثال يحظون بأهم الوظائف في فندق ميريديان مدينة تدمر السنية، وفي شركات النفط العاملة في محافظة دير الزور السنية، وفي مصفاة بترول مدينة بانياس السنية، وأبناء تلك المناطق السنة يراقبون ويتحسرون ويراكمون غيظا على غيظ.
ولعلي، كعلوي، بعدما رأيت المشهد من موقع السني أستطيع أيضا أن أفهم غضبه وهواجسه وردات فعله وموقفه العدائي من الطائفة العلوية، وقد ألتمس له بعض الأعذار التي تخفف من شدة حقدي عليه.
ليس المقصود من سيناريو تبادل الأدوار أعلاه التخفيف من حدة الجرائم وتبرئة المجرمين وغفران الخطايا.. إنما القصود هو التخفيف من مشاعر الحقد والرغبة في الثأر والانتقام التي تخرج عن فضاء المحاسبة وإقامة العدل وإحقاق الحقوق الذي هو الطريق إلى المصالحة الوطنية وإعادة البناء، إلى فضاء الاحتراب الطائفي الذي هو الطريق الأقصر نحو الخراب والبؤس وضياع البلاد والعباد.
كان يمكن لكل هذا المشهد الطائفي الأسود الذي تعيشه بلادنا أن لا يكون لو كان لدينا نظام يتحلى بأبسط درجات الحكمة والوطنية والعدل، ولو لم يكن همه سوى الاستئثار بالسلطة ونهب البلاد والسيطرة على العباد.
ليس ثمة مخرج أمام السوريين إلا العودة إلى العقل واكتشاف الحقائق وفهم التاريخ والظروف والأسباب، وترك فسحة للتسامح وقبول الآخر، وإلا فهم سائرون بأرجلهم وبإراتهم إلى الجحيم.
من كُتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية