ككل الاستحقاقات التي تشهدها الثورة السورية أتى تشكيل حكومة المعارضة محطةً جديدةً لاثارة الجدل والاستقطاب الحاد. وفي حين قد تكون الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور أحمد طعمة حدثاً ايجابياً قد يسهم في اخراج الثورة من عنق الزجاجة التي أقحمها فيها بعض المحسوبين عليها، يصر الكثيرون على تحميلها ما لا تحتمل إما تفاؤلاً غير واقعي أو تشاؤماً مفرطاً. فترى مواقع التواصل الاجتماعي قد امتلأت إما بانواع التهكم والشتائم والتنديد، أو -ولو بشكل أقل- بعبارات التهليل باعتبار الحكومة إنجازاً هاماً بل من أهم إنجازات الائتلاف "المتتالية"منذ تشكيله وحتى الآن.
وكعادتنا أيضاً في تحميل مشاهد الثورة السورية ما لا يحتمل، يقف كثير منا نحن السوريون موقف اللونين الأبيض من التطورات التي تحملها قضية الثورة السورية وعلى رأسها اليوم أمر تشكيل الحكومة.
وفي حين كان من المأمول أن يسعى الائتلاف ليكون فوق المحاصصات وأن يشكل مرجعا سياسيا للدولة السورية بمؤسساتها ووزارتها وتشكيلاتها المختلفة، إلا أن ما دار في قنوات ودهاليز الائتلاف الوطني السوري جعلنا نوقن للمرة الألف بأنه لم يرق بعد لمسؤولية اللحظة التاريخية. وفي حين يجد كثير من السوريين أنه من الصعب التغاضي عن الكم الكبير من الأخطاء التي وقع فيها الائتلاف ومن قبله المجلس الوطني، ومنها الأخطاء السياسية الناجمة عن قلة الخبرة والسذاجة في التعاطي مع الشأن الدولي، لا يمكن أيضاً إخفاء امتعاض معظم أهل الثورة في سوريا من الأداء وأسلوب التعاطي غير اللائق الذي تشهده اجتماعات الائتلاف من حين لآخر؛ ما يعكس حجم البؤس الذي وصل إليه الكثير من متصدري المشهد، وبالذات فيما يخص الإصرار على تعلم أبجديات السياسة والدبلوماسية في زمن الدم والدمار.
ونعلم جميعاً أن الائتلاف قد أغرق نفسه في تفاصيل المشهد السياسي المعقد، دون أن يكون لدى الكثير ممن يصرون على احتلال معظم فضاء المشهد السياسي والإغاثي والمدني العام فيه الحد الأدنى من الأدوات القادرة على العمل والتأثير الإيجابي، إن افترضنا أصلاً أن هؤلاء يملكون البوصلة والرؤية المناسبتين للقيادة والتأثير.
كما نعلم ذلك كله ويكاد يقضي علينا إصرار هؤلاء على قتل الأمل بتصرفاتهم وانعدام خبرتهم وقلة بأسهم وحيلتهم، إلى أن وصل الأمر بمواجهة بعضهم البعض.
ولكن وبعد كل هذا السرد لواقع قاس مؤلم، ألا يجدر بنا في قراءتنا للواقع أن نتذكر تركيبة المعارضة قبل أن نغرق في اليأس والسوداوية، وحتى لا نحملها ما لا تحتمل لا من حيث البنية ولا الكفاءة. فقد تشكل الائتلاف الوطني السوري كناتج لصق مكونات غير متجانسة فكرياً أو إيديولوجياً، ومتفاوتة العراقة أو الخبرة في التعاطي مع الشأن العام إلى حد كبير. وكان "الغراء اللاصق" لتلك المكونات العشوائية غير المنضبطة هو إرداة الدول ذات الثقل السياسي والعسكري، فيما يخص الثورة السورية وذلك في لحظة من اللحظات التاريخية العابرة التي غابت وربما لن تتكرر. فكثير من تلك المكونات قد اضمحل وانتهى وجوده عمليا في حين أنه ممثلٌ في الائتلاف بمقعد أو مقاعد لا تعبر إلا عن رأي من يجلس عليها وعن تحالفاته الشخصية أو الفئوية في كثير من الأحوال.
ألا يجدر بنا التوقف والنظر خارج حدود الخيبة.. أليس حريا بنا الوقوف لحظة للتفكير في تسلسل أحداث القضية منذ بدايتها وحتى اليوم، وأن نلوم أنفسنا – كلنا- على ما أخذته مسارات الثورة من انعطافات. نعم علينا أن نرجع بضع خطوات إلى الوراء لنعيد قراءة المسار، فقد أيقن السوريون مبكراً أن الأسد لن يخرج من سلطة بناها وأبوه على الجماجم بدون ثورة عارمة، أي إنهم آمنوا بحتمية الثورة كأداة للوصول إلى التغيير السياسي المطلوب فإن اندلعت الثورة أردناها ثورة على "الكاتالوغ" لا تغير لوناً ولا شكلاً تسير على سكة منصوبة بدقة متناهية، فتوقعنا بأن الثورة التي اشتعلت عفويةً حتميةً ضد نظام إجرامي أوغل في القتل والتدمير ستسير على طرق معبدة مزينة بالورود والياسمين وسط دعم الأشقاء وتصفيق الأصدقاء، وأن النظام سينهار فجأة وسنعيد بناء وطننا بيسر وسهولة.
وبعد مرور هذا الزمن على تلك القراءات أليس علينا اليوم الاعتراف بأننا كنا نحلم ولا نقرأ الواقع.. ولا تخرج نظرتنا لمعارضتنا السياسية عن تلك الرؤية الخاطئة، فإن توقعنا معارضة متماسكة عالية الاحتراف محصنة ضد الاختراق الأمني والإيديولوجي المؤذي، فعلينا أن نعترف بشجاعة الآن بأننا كنا نحلم وكنا أضعف من أن نقرأ سوريتنا على حقيقتها.
ولكن مع معرفتنا اليوم بقدراتنا الحقيقية ومع تكشف عوامل ضعفنا قبل قوتنا وفي وسط هذا الواقع المتردي وفي وسط أمواج السياسة الدولية المتلاطمة ومع معرفتنا أننا لا نستطيع استيراد معارضة أكثر نضجاً ولن نتمكن من جلب ائتلاف أكثر حساً بالمسؤولية وإن فعلنا جدلاً فلسنا على ثقة بأن لا تعاد التجارب البائسة للمجلس الوطني والائتلاف.. وبعد معرفة هذه المقدمات ألا يجدر بنا التوقف عن الأحلام والبناء على الموجود ومحاولة الرفع من مستوى الأداء والأخلاق في الممارسة اليومية للثورة ابتداء من الأفراد.
وفي هذا الإطار أيتعذر علينا منح الفرصة لحكومة الدكتور أحمد طعمة ونساندها – مع ضرورة الابتعاد عن التقييم وعن قياس المواقف السابقة- ولو بالتوقف عن الاستهزاء بكل ما هو كائن وكل ما سيكون.
ألا يمكننا التوقف عن لعن الشمعة والظلام معا.. وباعتبار أن مهمة الحكومة موجهة بالكامل لمعونة أهلنا في الداخل ابتداءً من الأراضي المحررة وأن نجاحها يعني تخفيف المعاناة وبسط الأمل. أفلا تستحق هذه الحكومة الدعم والدعاء بالتوفيق. لنشد على أياديهم ولننتظر الأفضل، ولنتفاءل بالخير لنجده هذه المرة.
من كتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية