سيسقط النظام يوما، ابتعد هذ اليوم أو أقترب، وسيجد السوريون أنفسهم وجها لوجه أمام استحقاق بناء بلدهم بالطريقة التي حلموا بها، ودفعوا من أجلها كل هذه الأثمان، بلد ينعمون في ظله بالأمان والحرية والكرامة والعدل والحقوق، بلد قادر على شق طريقه نحو الديمقراطية والنمو والازدهار..
ولكن سيفاجأ السوريون في ذلك اليوم أنهم أسسوا لشيء مختلف، أسسوا لبلد غير قابل للحياة، بلد تنعق فيه البوم وتسود فيه الغربان، بلد تستحكم الكراهية والأحقاد بأبنائه، وتطغى على مكوناته ثقافة الثأر والانتقام، بلد لا مكان فيه للأمل والرجاء..
نعم هذا ما يؤسس له السوريون الآن بلا وعي أوإدراك، يسيْرون أو يسيَّرون إلى مصيرهم الأسود كقطعان المواشي دون تفكير ودون إرادة أو مقاومة، يستسلمون للغضب ولكل غرائز الشر والحيونة، ويغلقون على أنفسهم كل منافذ العقل والتبصر والحكمة.
توقفوا أيها السوريون ولا تذهبوا بعيدا...
لا تذهبوا بعيدا في الادعاء بالمعرفة وبملكية الحقيقة، فالحقيقة فوق الجميع، ولا يملكها أحدكم بمفرده، إنما يقترب الناس منها عبر حوارهم وتلاقح أفكارهم، وسلوككم هذا ينفّر الآخرين، ويقفل باب الحوار معهم.
لا تذهبوا بعيدا في تصنيف أنفسكم كملائكة أخيار، والآخرين كشياطين أشرار، إنما ذلك سيجعل بينكم وبين الآخرين أسوارا شاهقة يصعب تخطيها.
لا تذهبوا بعيدا في العناد والتشبث بالرأي، إنما ذلك يصعّب إمكانية التقارب والتفاهم والعمل المشترك مع الآخرين، وما أحوجكم، وأحوج بلدكم، إلى هذا التقارب والتفاهم.
لا تذهبوا بعيدا في شتم وإهانة المختلفين عنكم، إنما ذلك سيدفع الآخرين إلى التعامل بالمثل، وتدور دائرة التحقير والإهانة حتى تطال الجميع، وتحط من قيمة الجميع في نظر الجميع، وتنعدم ثقة الجميع بالجميع، وتسيطر على الجميع أجواء الخيبة وانعدام الأمل.
لا تذهبوا بعيدا في وضع الشروط والتشدد بها للدخول في العملية السياسية عبر المزاودة الدائمة على دماء الشهداء وتضحيات الناس ومآسيهم، إنما أنتم بمزاوداتكم تلك تؤججون العواطف، وتضعفون دور العقل، وتدفعون الشعبويين من أهل السياسة إلى التشدد ووضع شروط لا يسعفها ميزان القوى على أرض الواقع، وقد تحبطون بذلك فرصة حل محتمل لمأساة تطحن أهلكم وتدمر بلدكم، وأنتم لستم في موقع التشدد بالشروط، وفرصة العمل السياسي المتاحة اليوم ليست من صنع انتصاراتكم وإنجازاتكم في ميادين الحرب والسياسة، فأنتم لا تربحون لا هذه ولا تلك، إنما هي من صنع ظروف وإرادات خارجية لا علاقة لكم بها، فلا تضيعوا ببطولات دونكيشوتية فارغة فرصة حل قد لا تتكرر، وما في ضياعها إلا المزيد من الدماء والشهداء؟ وأذكركم بأن الحفاظ على حياة الأحياء وحقن دمائهم لا يقض مضاجع الشهداء؟
لا تذهبوا بعيدا في التعصب لطوائفكم وعشائركم وعوائلكم، إنما أنتم بذلك تقوضون مقومات المجتمع المدني، وتنتكسون بمجتمعكم إلى مرحلة التخلف والبداوة، وتجعلون من مهمة بناء مجتمع حديث متطور أمرا بالغ الصعوبة.
لا تذهبوا بعيدا في الفرح بموت الآخرين من أبناء بلدكم، إنما بفرحكم هذا تدفنون الإنسانية في قلوبكم، وتبررون فرح الآخرين بموت أبنائكم.
لا تذهبوا بعيدا في كراهيتكم وحقدكم على الآخرين، ولا تتركوا ثقافة الثأر والانتقام تستحكم في نفوسكم، فهذا سيجعلها عصية على التسامح يوم يستحق هذا التسامح... وربما تكمن عظمة مانديلا في إدراكه العميق لهذه النقطة بالذات، حيث استطاع تغليب ثقافة التسامح ونشرها عوضا عن ثقافة الثأر والانتقام، فأنقذ بلاده ووضعها سكة التقدم والازدهار... لقد قال عند الإفراج عنه بعد سبعة وعشرين عاما قضاها خلف القضبان: "أي وطن نحلم بتحريره وإعادة بنائه إذا أطلقنا العنان لمشاعر الحقد والانتقام؟"
لا تذهبوا بعيدا في اللعبة الطائفية، أنما أنتم بذلك تنقذون عدوكم وتلقون له بطوق النجاة، وأنتم بذلك إنما تزكون نارا سيصطلي بها أبناؤكم وأبناء أبنائكم إلى يوم الدين، إنها نيران الطائفية البغيضة التي تعجز السنون عن إطفاء لهيبها.
تذكروا أيها السوريون أن التدمير والتخريب أسهل بكثير من الإعمار والإصلاح، وأن إزالة الظلم أسهل بكثير من إقامة العدل، وأن إسقاط الاستبداد أسهل بكثير من بناء صرح الحرية، وأن نزع الثقة أسهل بكثير من بنائها...
وليبق في بالكم أن لا مخرج لمأساتنا إلا بالمصالحة والتسامح والمشاركة في بناء المستقبل، وأن من واجبنا جميعا، بأقوالنا وأفعالنا، تهيئة البيئة والأجواء لتلك المصالحة وذلك التسامح، فتوقفوا وتفكروا وراجعوا أنفسكم... ولا تذهبوا بعيدا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية