أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

استعادة البوصلة والمعنى

في أواخر عام 2005 قام مجموعة من الناشطين والمثقفين في سورية بتأسيس مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان، كجمعية مدنية تعنى برصد انتهاكات حقوق الإنسان في المستويات كافة بدراسة العقبات الثقافية والقانونية التي تقف أمام تحسين أوضاع حقوق الإنسان في سورية، وقد شاركت آنذاك في الجانب الثقافي من هذا المشروع.

قرر هذا المركز أن يصدر آنذاك صحيفة شهرية يغلب عليها الطابع الإخباري، ومجلة فصلية تعنى بقضايا حقوق الإنسان الفكرية وبآليات المساهمة في إدماج وتبيئة ثقافة مبادئ وقيم حقوق الإنسان في ثقافتنا الوطنية. وقد سُئلت آنذاك عن أسماء مقترحة للصحيفة الشهرية والمجلة الفصلية، فاخترت للأولى اسم "البوصلة" وللثانية "المشكاة"، وتسلمت رزان زيتونة رئاسة تحرير الأولى، وأنا رئاسة تحرير الثانية.

لطالما كنت مغرماً، في كافة مستويات الحياة، بهذه الكلمة: "البوصلة". فقد كنت أشعر أنها تعبِّر عن الحالة المضادة للفوضى والتشويش وضعف الرؤية التي تؤدي في المآل إلى فقدان المعنى وهيمنة حالة عبثية، سواء على المستوى النفسي أو العملي. فأي عمل ناجح في الحياة يحتاج إلى بوصلة ما، فكيف إذا كان هذا العمل يتعلق بشؤون البشر والمجتمعات والدول، أي بالعمل السياسي؟

من البديهي القول أن البوصلة السياسية لا تتشكل من دون رؤية فكرية سياسية، وهذه تحتاج بالضرورة إلى عقول تنبذ العمل التجريبي، وتحترم العمل وفقاً لخطط مدروسة ومنتقاة، وتفهم العلاقة بين التكتيك والإستراتيجية، وتميّز بين الخطاب السياسي الإعلامي والعمل الواقعي، وتعي في كل لحظة البيئة السياسية المحيطة داخلياً وخارجياً.

هناك نقطة ضعف ملازمة للثورة منذ بدايتها وحتى اللحظة، وهي عدم وجود هذه البوصلة السياسية الموثوقة، فقد كان وما زال نمط العمل السياسي المسيطر هو العمل على "السبحانية"، وهو نمط عمل خاص بـ "الدراويش"، ويظهر في كل حركة وفعل ونفس، حيث لا وجود للخطط ولا لترتيب الأولويات ولا للحساب الزمني ولا للعلاقات المدروسة ولا حتى للتأمل ومراجعة الأداء، وقد تمت التغطية على هذا العمل وسلبياته طوال سنتين بفعل القوة الجارفة للثورة السورية، لكن منذ حوالي 6 أشهر لم يعد بإمكان فعاليات الثورة التغطية على هذه السلبيات وتجاوزها. بالمقابل، فإن النظام الذي قضى سنتين، على الرغم من كل إمكاناته، يمارس الغباء بكل فنونه، فإنه خلال الأشهر الأخيرة أصبح يعمل وفقاً لبوصلة قوية وخطط واضحة، سواء على المستوى الإعلامي والسياسي أم على المستوى العسكري.

لا تستطيع أحزاب المعارضة التقليدية التي هشمها الاستبداد، أن تشكل مثل هذه البوصلة الضرورية، فهي تحتاج إلى من يمسك بيدها ويدلها على أقرب قبر كي تدفن نفسها، مع الاحترام لنضالاتها وتضحياتها. كما لا تستطيع أن تقوم بهذا الدور التشكيلات المختلفة، من ائتلافات وهيئات ومجالس واتحادات ومنابر، كونها برزت بشكل اعتباطي وارتجالي، ولذلك سوف تبقى حالة الفوضى وتشوش الرؤية هي السائدة إلى حين إنضاج تجربة جديدة في العمل السياسي، وهذه التجربة ستضم بين ظهرانيها بعض الشخصيات التي تستطيع بوعيها الخروج من دائرة المعارضة التقليدية الميتة، إلى جانب بعض الشخصيات من التشكيلات الحديثة التي أدركت عواقب العمل الاعتباطي والكوارث التي أنتجها.

ليس واضحاً اليوم الى أين يتجه بلدنا، وما هي المسارات المحتملة، فاندماج الثورة رغماً عنها في الغالب الأعم، وأحياناً بفعل إرادات غبية، محلية وخارجية، بالصراعات الإقليمية والدولية، قد أخذ السوريين إلى غير المسالك والأهداف التي أرادوها من ثورتهم، وجعل من بلدهم أرض صراعات مفتوحة لكل من هب ودب، حتى بتنا في حالة أقرب إلى ضياع المعنى، وبما يطيح بكل الأفكار النبيلة التي انطلقت من أجلها وبهداها الثورة.

البوصلة اليوم غائبة، والجميع مسؤول عن غيابها. ولا شك أن الكثير من اللوم يمكن توجيهه إلى القوى الاسلامية، بحكم أنانيتها وعدم تقديمها المثل الجيد في آن معاً، إلى جانب انجرارها في محطات عديدة إلى خطاب مذهبي متوافق مع سياسات النظام وممارساته. لكن اللوم الأكبر باعتقادي ينبغي أن يوجه إلى النخب السياسية والثقافية التي تدعي التحلي بصفتي المدنية والديموقراطية، وهي التي عجزت عن الإمساك بالبوصلة في جميع اللحظات المفصلية، ولم تقم بواجبها في رسم أفق سياسي مختلف عما هو سائد، ولم تفلح في بناء لغة جديدة مناقضة لزمن الاستبداد بجميع أشكاله.

تكمن النقطة الجوهرية اليوم في استعادة المعنى، أي استعادة البوصلة، على الرغم من الكوارث والخراب القائم على الأرض. فإذا كان انطلاق الثورة من دون تخطيط في البداية هو نقطة فخر، فإنه ليس كذلك الآن، بل إنه ليس كذلك بعد أشهرها الستة الأولى. كيف يمكننا ذلك؟ بالعودة إلى اللحظات التأسيسية للثورة. هل هذا وهم؟ بالتأكيد لا، فقد كانت مسألة حدوث ثورة في سورية بحد ذاتها وهماً، لكنها أصبحت حقيقة فاقعة.

من أين نبدأ؟ من الاقتناع بضرورة وأهمية هذا الفعل. ما هي الخطوة التالية؟ تحديد وإدراك مثالب تجربة السنتين الماضيتين والاستفادة منها وتجاوزها على مستوى الوعي على الأقل، سواء على مستوى الأداء الشخصي أو المؤسساتي. ما العنصر الرئيسي في هذا العمل الضروري اليوم؟ قيادة سياسية شجاعة، واعية وعقلانية، تمسك بزمام المبادرة وتبني أفقاً ديمقراطياً لسورية. ما الوسيلة؟ بناء مؤسسة سياسية ديمقراطية وحديثة قادرة على إفراز هكذا قيادات في كل لحظة. جسد هذه المؤسسة وروحها؟ الشباب السوري المدني، غير المؤدلج، داخل البلد وخارجها. التوقّع؟ قد تتحول هذه المؤسسة السياسية إلى مركز جاذب يمسك ببوصلة الوطن ويستعيد المعنى المفتقد، في الغد القريب أو البعيد.

من كُتاب "زمان الوصل"
(120)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي