" رصاصٌ، حديدٌ، رصاصٌ حديدٌ
وآهات ثكلى وطفلٌ شريد"
لوحةٌٌ معلقة على جدار الزمن, سلسلةٌ متدلية من جيـّد المأساة في اللوحة ,وكأن الواقف أمامها ساكنٌ أبدي لا يترك له الوجومُ فرصة المسير, وهي تـُحاكي لوحة أخرى متدلية من مشنقة الموت في زمنٍ يُكرّر بالمأساة على جدرانهِ:
"واحديداهُ......
[ تهاوى جاري الأعرج قرب الدّرج
فتراكضتُ إلى أطفاله
علّني أوصدُ باب البيت كي لا يلمحوهُ
غير أني لم أجد من ذلك الباب سوى أقفالهُ
وسكونٍ يتمرأى في حطامٍ لزج ]
كلتا اللوحتين مرسومتين بريشة الشعر وأنين الإنسان حين يُحاكي الحرب ، كلتا اللوحتين تفصل بينهما سنين لكنهما تعبقان بدم الشوارع في سوريا الآن، وكأن السياب في اللوحة الأولى وسليم بركات في الثانية ،ناشطين ميدانيين في شوارع حمص وداريا ودوما ودرعا......
وكأن هذه الكلمات تـُحاكي يتامى سوريا المشرّدين وسلاح النظام الفتاك وآهـ........ات الأمهات المترملات، المتشرّدات من سوريا.
يكرُّ السياب من قبره على شوارع سوريا المدماة يُصوِّر المأساة المعرِّية للإنسانية جمعاء وهي تتفرج على شعب قال للطاغي أريد أن أكون:
"حديدٌ عتيقٌ ورعبٌ جديد!
حديدٌ
رصا.........صٌ
لأن الطغاة
يريدون ألّا تتم الحياة
مداها وألّا يحسّ العبيد
بأن الرغيف الذي يأكلون
أمرُّ من العلقمِ
وأن الشراب الذي يشربون
أجاجٌ بطعم الدم
و أن الحياة الحياة انعتاق،......"
هذا فقط لأن شعباً أراد الخلاص من أصفاد مستبدهِ، فقط لأنه أراد أن يصرخ بحرية ويحلم بحرية ويستمع لنشرة الأخبار بحرية........... وقفت الإنسانية المقنعةُ لتسدَّ ولوجه الحياة فهي في منظور إنسانيتهم جواز سفر غير معترف بهِ.
السيّاب كتب قصيدته ( الأسلحة والأطفال) من ديوانه (أنشودة المطر) في الستينيات، وهي تـُحاكي الزمن والتاريخ المتشابه للطغاة، ويسفـِّر عن وجه الحقيقة القبيح في السياسة حين تهبُّ ثورة الحقِّ تحت ظلّ سطوة المصالح في العالم:
"عصافيرٌ؟ أم صبيةٌ تمرح؟
أم الماء من صخرة ينضح
ولكن على جثة دامية؟
وقـُبّرةٍ تصدحُ
ولكن على خربة بالية؟
عصافيرٌ؟!
بل صبيةٌ تمرح
وأعمارها في يد الطاغية
وألحانها الحلوة الصافية تـَغلـَغلَ فيها نداءُ بعيد:
حديدٌ عتيـ.......ق
رصا.............صٌ
جديد"
ومثله سليم بركات في قصيدته (الحديد) يتأوَّه بنـَفـَسِ الثمانينات على هذا الآن الصارخ بصوت الحديد المرعب في بلاد الرعب :
"يا بلاد الرعب كم أسرفتِ في قتلي
فأمسى قلبكِ الأبكم كالجرح وحيد"
بلادٌ سماؤها مغزوةٌ بطائراتٍ ناشرة الموت في كلّ مكان، مُخلـِّفة رماداً من عظام الشعب وحضارة البلاد ، كلٌّ منهما تبعثرَ شظايا في أروقة الخراب.
يقول سليم عن( خِلدة) لبنان وكأنهُ في (حمص) سوريا:
"مضت الطائرة الأولى، وعادت أختها
حيث طارت شرفتي
فنزلتُ الدَّرج الأبكم محمولاً على الذعر، فسدّت جارتي
ببقاياه عليَّ الدرج الأبكم وهاكم ثدييها
لصق باب المصعد، الفخذ هناك
وعلى السقف بقايا
من حذاء شدّه كالصمغ لحمٌ، وإذا
ما هم إن كان (إذا) أو كان( ذاك):
مِزقٌ من كبد الحاضر تحبو
وملاكٌ أحمر يلهو بأحشاش ملاك"
ويصيح السيّاب وكأنه واقفٌ بحضرة رفات دُمىّ (داريا) وأطفالها وأثاث منازلها، بأنين حجارتها بعد مرور الطائرات:
"أمِن حيثُ التقاء الشفاه
على الحبِّ: ينسجن خيط الحياة
يحوكُ الردّى غزلهُ الأسودا!
دماً أو دخاناً؟ يحوك الردّى
شِباكاً من النار حول البيوت
على صبيةٍ أو صبايا تموت؟
ويرتد حتى حديد السرير
جناحاً عليه المنايا تـُغير،
وحتى الذي في عيون الدُمىّ
من المعدن الزئبقي الحسير"
كلّاهما السيّاب وسليم ينوحان في وجه السلاح الحديدي ، فقط ليكونا ذاكرتهُ على ما يُخلـِّفه حين يقوم بالفعل، يهذيان بالألم والأثرِّ كما العالم كلّه أمام الشاشة ,فقط يروي ويصمت بين جدرانه!
يقول السيّاب:
"حد..........يدٌ....
لمن كلُّ هذا الحديد!
لقيدٍّ سيلوى على معصمِ
ونصل على حلمةٍ أو وريد،
وقفلٍ على الباب دون العبيد،
وناعورة لاغتراف الدم.
رصا............صٌ
لمن كل هذا الرصاص"
يُكمِلُ سليم:
".......والحديدُ العذبُ ينساب، أعمرٌ يا حديدُ؟
هزني الله قليلا، وهزني الشـّوح، وألوى
حلمي الصفصاف فانداح النشيد:
كم رعتني القنبلة
كيتيمٍ،
كم بكت حولي العماراتُ بكاء السنبلة
واستظلت بي متاريسٌ، وأواني البعيد"
وكأن الشاعرين يطلان من شرفة الزمن واقفين قِبالة إحدى شوارع حلب أو دمشق أو حماة أو درعا.........
يصدّحان بمآلٍ من يمرّون فيه ، عزلاً ،عُراة، إلّا من صراخهم، يلتفت السيّاب بين سليم والشارع مع صوت الرصاص وينشد:
"حديدٌ
رصا...........صٌ
حديدٌ عتيق
رصاصٌ...... ليخلو هذا الطريق
من الضحكة الثرّة الصافية
وخفق الخطا والهتاف الطروب.
فمن يملأ الدار عند الغروب
بدفء الضحى و اخضلال السهوب؟
لظى الحقد في مقلة الطاغية
ورمضاء أنفاسه الباقية
يطوفان بالدار عند الغروب
وأطلالها البالية!
حديدٌ عتيق
نحاسٌ عتيق
وأصداء صفارة الحريق!
يتماهى سليم بركات مع الحدث في (خِلدة) عند اجتياح لبنان وكأنه في (الخالدية) بحمص، وهي تتهاوى حجراً إثر حجر، وجسداً مع جسد، غاضباً يصرخ:
"سقطت شرفتنا
من علييّن، وطارت جارتي
كدخانٍ، حمل الشارعُ عكازيه للملجأ
فاجتاح الحريق
ملجأ الشارع، طفلٌ مرّ بالباب ، ومن خلفه
مرّت أمه فكست أشلاءها أشلاؤه"
الحديدُ حين يفتك لا يُميزُ بين أعزل ومسلح ،بين مدني وعسكري، بين رجل وامرأة، بين طفل وشيخ ، بين حيوان ونبات، فالكلُّ و الشيء أهداف مرصودة للموت.
بركات والسيّاب بالشعر خلقوا للزمن، ظلاً يطول ويقصر، يُجانب ويُعامد , بصيرورةٍ لِمَشاهد َشقيقة حين يكون الحديد هو الحلّ.
فسليم يُحاكي الحديد وجهاً لوجه وكأنه مع شباب بانياس عُراة أمام المدافع, متمددين دون خوفٍ ما دام في روحهم يُبعثُ الحقّ:
"يا حديدي, أنت, يا الهذا بثدييك على أفواهنا
سترويك, التقط أثداءنا!
كلّ موتٍ سلةٌ مثقوبة
كلّ غيبٍ درجٌ يُنزله الغيب إذا ما ابتعدا"
والسيّاب يُصوِّر بكاميرة روحه ِمعمعة العِراك الدائر بين أصحاب الحقّ والطاغي, كأنه يظلّ واقفاً وراء ساترٍ ترابي مع أفراد الجيش الحرّ الحقّ, في وقوفه مستبسلاً أمام فوهة المدافع وتحت وابلِ قذائف الطائرات:
"ستارٌ, وكا الجرح -إذ ينزفُ-
أرى الفوهات التي تقصف
-تسدُّ المدى- واللظى , والدماء.
وينهل كالغيث, ملء الفضاء
رصاصٌ ونارٌ, ووجه السماء
عبوسٌ لما اصطك فيه الحديد"
ويتفق الشاعران في حدثين مختلفين على آنٍ يُكرّر نفسه في كلّ حين على أن الحديد ( السلاح) هو لدفعِ الموت عن الشعب وإحياءه, ما دام قد جيء به من دمه وعرقه ولا يكون هذا الحديد لحفرِ قبورٍ يُدفن فيها الشعب بسلاحٍ هو صاحبه الحقيقي, وليس مِلكاً للطاغي الذي ينحني للعدو ويتجبّر على الشعب. يقول السياب:
"لكَ الويل من تاجرٍ أشأمِ
ومن خائضٍ في مسيل الدمِ
ومن جاهلٍ إن ما يشتريه
-لدرء الطوى والردّى عن بنيهِ-
قبورٌ يوارون فيه بنيه!
حديدٌ عتيق
رصا................صٌ
حديدٌ عتيقٌ, لموتٍ جديد"
وبدوره سليم حين يرى أن سلاحه قد ارتد عليه, يجذبه المنفى حائراً بين ما يُحيي البلاد وما يُميتهُ:
"غير إنيّ حين أهوي بسيوط الماء تنهار بلادي:
ضربةٌ تـُحيي بلادي!
ضربةٌ أخرى تـُميت.
شركاً كانت مثل الله, تنهدّ فتنهدُّ جيادي
وكبابٍ مُغلقٍ كانت أمامي وورائي
يفتح ليّ المنفى الأفق فأرمي درعي الأخضر للمنفى, واستصرخُ ماءً فيُنجيّني
بماءٍ فإذا ما التفتت عينايّ للباب غشاني الظّلموت:
ضربةٌ تـُحيي إذاً,
ضربة أخرى تـُميت."
سليم في قصيدته المكتوبة عام 1983 بعد هجرته الإجبارية من لبنان بعد الاجتياح
الإسرائيلي إلى تونس ثم إلى قبرص, يُدرِّك أن العالم مفضوحٌ إزاء الخراب في الشرق وإزاء الموت الجماعي لشعبٍ فقط يريد أن يُبرهن على وجوده ويريدُ أن يكون:
"[ سقطت شرفتنا
من لغات لم نكن نعرفها
سقط العالم من شرفتنا
في لغات لم نكن نعرفها.
فاستعانت جارتي
بثـُـقابٍ وهي تؤوي موته في موتها]
إنها أسماؤه ذا حديدٌ............"
لكن ومهما كانت التضحيات, ومهما تشعبت لعبة المصالح, فكأن شاعرينا ينطقان بلسان الشعب السوري ,بأنه ما دام قد بدأ ,فالنهاية هي ما ستؤول إليّها بديهيات الحقِّ على ثغاء السياسة وببغائيتها, فالسيّاب لا يرضى دون بناء البلاد من عظام الطاغي:
"......- ونواقيسٌ فيها يرن السكون-
وأجراسٌ مركبة من بعيد
يخفُّ لها صبية يلعبون:
نواقيسٌ في الفجر, واليوم عيد,
وفي الماء أطلالُ جسرٍ حديد,
في كلّ حقلٍ – كنبض الحياة -
تهزُ المحاريث قلب الثرى
وتـُبنى القـُرى:
قـُرى طينها من رميم الطغاة"
وسليم يتغنى بالشهادة, ويُؤِّكد وكأنه يقرأ صدى السوريين البعيد, أن كلّ ما تمَّ وما اندثر وما بقي, سيغدو بقوة الشعب غداً آخر والباقي للنسيان:
" ولأنيّ..... أين من آنٍ أحاذي جمهرات الرعب كي يشتغِلَ الرعب بأقداري
أرعبٌ بعدُ؟أمهلتُ الشظايا
ساعةً, قلتُ استعيدي
جسدي عرساً, وفيضي بالهدايا
ولأنيّ.......... ليت الآن أغنيك كحبرٍ غـمست أقلامها الأسماء فيه.
ليت... ما هذا بتيهٍ
بل نبوءاتٌ تقلّبن على مخدعي المائي فاستشرفتُ في الموت هوايا.
وتزينتُ بأسراري التي تغسلني
كشهيدٍ, وحملتُ الجسدا
غافلاً مما تهاوى منه, مُشاءً به, متئدا."
وكرائيينِ يستشرفان المستقبل, وكأنهما روح الحدث في المكان, سوريا, يتغنيان بالغدّ, غدُّ الحرية وجهة بداية السوري في مسيرة دمه نحوها, وإنْ كان غير ذلك فليس سوى اللعنة تذرُ على كلِّ قولٍ وفعل, وكأن الخطوة الأولى في الحرية بدأت قسماً ويميناً غليظاً حتى الخطوة الأخيرة, وإن اختلفت الأرجل أو حتى بُترت.
يلقي السيّاب عن الشعب قسمه:
"بأقدام أطفالنا العارية
يميناً, وبالخبز والعافية
إذا لم نـُعفـِّر جباه الطغاة
على هذه الأرجل الحافية
وإن لم نـُذوِّب رصاص الغزاة
حروفاً هي الأنجم الهاربة
فمنهن في كلّ دارٍ كتاب
ينادي: قفي وأصدأي يا حِراب)
وإن لم نضو القرى الداجية
ولم نـُخرِّس الفوهات والغضاب
ونـُجلِ المغيرين عن آسية-
فلا ذكرّتنا بغير السُّباب
أو اللعن أجيالنا الآتية!"
وسليم يهفو بالروح الجديدة عند النهاية المنتظرة:
"موشكٌ أن أبعث الأنقاض في هيئة ما ليس
بأنقاضٍ, واسترسلُ في نجوايَّ
طينٌ مدني, طينٌ أساطيري
بحرٌ قال ما لم يقل الشعب"
هكذا هي الحياة حين تريد أن تلجها بما هو لك فيها, وما سُلِّب منك, هكذا هي الحياة حين نريد خلقها من جديد بأنفاسنا وأرواحنا و بدمائنا, لا كما كانت مربوطة إلى قيدٍّ وهمي يُسيّرها الطاغي كيفما شاء.
هكذا هي الحياة حين تختبر فينا أننا مُستحقيها, ومُترجمي الإنسانية فيها بعد أن غيّرنا كسوريين كل القواميس المتعلقة بالإنسان وإنسانيته التي أيضاً ستتحرّر بانتصار إرادة الشعب السوري, مهما لاقى وعانى.......... فالحياة الجديدة قادمة, والسياب شاهدُ روحٍ عيان:
"وأن الدواليب في كل ِّعيد
سترقى بها الريح.......... جذلى تدور!
وترمي بها من ظلام العصور
إلى عالم كل ما فيه نور
(رصاصٌ رصاصٌ, رصاصٌ, حديدٌ,
حديدٌ عتيق؟........
لكونٍ جديد"
- شعر السياب من قصيدته (الأسلحة والأطفال) من كتاب في جريدة( النهر والموت) مقتطفات : شوقي عبد الأمير
- شعر سليم بركات من قصيدة (الحديد) في ديوانه (بالشباك ذاتها بالثعالب التي تقود الريح) دار الكلمة للنشر 1987
غمكين مراد
السياب وبركات ناشطين ميدانيين في سوريا!!
غمكين مراد
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية