تراودني فكرة هذا المقال "حيونة المعارضة" منذ زمن بعيد، وأنا أراقب بألم وخيبة مسلسلا لا ينتهي من أخطاء المعارضة السياسية وتخبيصاتها وضيق أفقها، والذي كلف ويكلف وسيكلف سوريا والسوريين غاليا، وأذكر أنني طلبت يوما من الصديق حازم نهار في إحدى اجتماعات تأسيس المنبر الديمقراطي عبر السكايب أن يكتب مقالا عن هذا الموضوع، وتحت هذا العنوان بالذات باعتباره عانى الأمرين من قيادات المعارضة في مساعيه لتوحيد كلمتها بشأن الثورة السورية، فوعدني أنه سيفعل وأن المادة جاهزة لديه، والقلب مليان، لكنه لم يفعل، ربما لاعتقاده حينها أن مقالا من هذا النوع قد يفسد آمالا ما زالت معقودة على العمل المشترك، لكنه فعلها فيما بعد بطرق أخرى، وعبر دراسات وتحليلات ربما تكون الأعلى قيمة في هذا المجال.
عادت فكرة "حيونة المعارضة" للإلحاح بعد مجزرة الكيماوي وعودة الحديث بزخم غير مسبوق عن الحل السياسي ومؤتمر جنيف2، حيث راقبت بذهول تمسك قيادات المعارضة بحالة الخلاف والشقاق والتناحر فيما بينها، وإصرارها على عدم التقارب والتفاهم حول هذا الاستحقاق المصيري الذي يمكن أن يكون بداية النهاية لمأساة الشعب السوري فيما لو عملت المعارضة عليه بحنكة ومسؤولية.
وصل مستوى الحيونة لدى المعارضة إلى درجة أنها ستذهب إلى جنيف متفرقة بعدة وفود وبدون تفاهم وتنسيق، ولو كان ثمن ذلك تفويت فرصة حل سياسي محتمل على السوريين مع ما يعنيه ذلك من أبعاد، ولو كان ثمن ذلك أنها ستتحول بكل دكاكينها ورموزها إلى مسخرة أمام العالم أجمع، وأمام التاريخ.
كيف يمكنها ذلك؟ وما الذي يجعلها تقبل التفاوض مع عدوها ولا تقبل التفاهم فيما بينها؟ وكيف يمكنها أن ترى ثورتها في انحدار وتراجع، وبلدها في تآكل وتفكك، وأهلها في احتراب وبؤس وتشرد.. ولا يمكنها أن تتوافق مع من يفترض أنهم رفاق في الدرب والهم والمصير؟ وكيف ستتمكن إذن من العمل مستقبلا مع بعضها البعض في برلمان واحد ومؤسسات واحدة؟
يدهشك عدد المعارضين السوريين الناشطين، وتدهشك إرادتهم وشجاعتهم، وتدهشك وطنيتهم،.. لكن تدهشك أكثر فرديتهم وعدم قدرتهم على العمل الجماعي المنتج والمؤثر.
غياب ثقافة العمل المشترك، بما تتطلبه من تواضع وتناصت وتنازل ومرونة، هو نقطة ضعف قاتلة لدى المعارضة السورية، ونقطة الضعف هذه كانت وستبقى كفيلة بتحويل كل ميزات هذه المعارضة وإمكاناتها الأخرى وتضحياتها إلى شيء عديم القيمة.
كان واضحا للجميع ومنذ البداية أن نجاح الثورة وإنقاذ البلد يتطلب من المعارضة عملا جماعيا، يتوافق فيه الجميع على المبادئ والأساسيات العامة لدعم الثورة وتغطيتها وتسويقها وتكميلها، وها هي الثورة في شهرها الحادي والثلاثين دون أن يحصل، ودون أي بارقة أمل في أنه سيحصل.
لو تأملنا قليلا فيما يتفق عليه أطراف المعارضة وفيما يختلفون، لوجدنا أنهم جميعا متفقين على الهدف، إقامة نظام مدني ديمقراطي تعددي... ومتفقين على أن هذا النظام هو العقبة ولا بد من إسقاطه، أما اختلافاتهم فتكاد تنحصر في الطرق والمسارات التي يراها كل منهم للوصول إلى الهدف، وهذه الاختلافات طبيعية جدا وصحية جدا إذا أُحسنت إدارتها، إذن إن ما يجمع أطراف المعارضة هو أكبر بكثير مما يفرقها، واختلافها على الأسلوب والمسار لا يفترض أن يوصلها إلى حالة العداء التي هي عليه لولا قلة عقل القائمين عليها.
حتى في الملفات المختلف عليها لا تجد شيئا جوهريا يستحق الخلاف، ولا وجود أحيانا لمحل الخلاف، إنما يتم الاختلاف على أوهام، كما هو الحال في مسألة التدخل العسكري الخارجي، حيث يرفض البعض الفكرة، ويعتبرها شرا مستطيرا على البلد وسيادته، بينما يرغب البعض الآخر في التدخل ويطالب به، ويرى فيه خشبة الخلاص، والحقيقة التي أصبحت واضحة منذ وقت مبكر أن فكرة التدخل غير موجودة أساسا، وأن الغرب غير راغب في التدخل العسكري في سوريا، وبالتالي فمحل الخلاف غير موجود، ولا مبرر له، وحتى لو كانت فكرة التدخل قائمة، فقد كان بالإمكان دراستها من مختلف جوانبها وأبعادها، وفتح حوار مسؤول حولها، وتكوين رأي وموقف مشترك موحد عنها أمام الآخرين.
يختلفون أيضا في مسألة عسكرة الثورة، حيث يقف بعضهم ضد العنف والعسكرة منذ البداية وحتى الآن، رغم أن العسكرة أصبحت أمرا واقعا منذ عامين على الأقل، وحتى قبلها كان واضحا للجميع أنها ستصبح أمرا واقعا بسبب عنف النظام المفرط والمستمر، ولم تكن خيارا مبدئيا لأحد، وكان المفروض من الجميع التعاطي معها على أساس ذلك، ومحاولة تنظيمها وضبطها، بدل معاداة كل من حمل السلاح بمن فيهم من عناصر وطنية نبيلة شجاعة أرادت الدفاع عن أهلها وعن ثورتها.
يمكنني القول بثقة أن أداء المعارضة السياسية أساء كثيرا إلى الثورة السورية بقدر ما أفاد أعداءها، وساعد على إضعافها وإيصالها إلى ماوصلت إليه، ورفع كثيرا من كلفتها على سوريا والسوريين، الذين لن يترددوا في رد هذا الجميل عند أول فرصة.
من كُتاب "زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية