أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

فايروس ... الايدز السياسي في سوريا... أسد عبد الكريم القصار

في خضم أربعين عاما من الكبت السياسي تنوعت الأحاديث الاجتماعية والحياتية في جلسات وتجمعات السوريين على اختلاف أنواعها ... مواضيع كثيرة, تصدرها الجنس وكرة القدم والفضائح الفنية والطبيخ .... وكعادة السوري كالجرس يصدر صوت الرنين من كل قطعة فيه ... فهو المفتي والرياضي والطباخ والفنان ومعلم المشاوي والمحلل النفسي الفلكي المعماري الناقد الفني الأول لجميع الظواهر الكونية.
إلا أنه يصل عند السياسة, فتراه مرتبكا خائفا متصنعا للهبل والعته أحيانا.. بالتعبير العامي (بيجدبها) وغالبا ما يحاول إغلاق الحديث بسرعة بإحدى الجمل التالية: نحن لا دخل لنا, الله يخلي الحكومة, انا لا أحب التحدث في السياسة. 
لذا نشأ جيل بأكمله يحمل فايروس مرضي مزدوج المفعول يشبه إلى حد كبير فايروس الايدز انتقل إلينا عبر علاقة قهرية غير شرعية بيننا وبين نظام فاشستي مخابراتي ديكتاتوري كان مفعوله الأول انه جعل الشريحة الكبرى من شعبنا تنظر للسياسة في أحسن أحوالها على أنها ترف و(فزلكة) لا فائدة منها أو رجاء، وفي أسوأ أحوالها على أنها خراب للبيوت وضياع للأعمار والأرزاق. أما المفعول الثاني وهو الأشد ضررا وخطرا هو جهلنا بكل ما يتعلق بالسياسة من ممارسة وأدبيات واديولوجيات وخطط عمل.
فعلى الصعيد المعرفي اكتفت الشريحة العظمى باجترار أدبيات البعث دون أدنى تفكير أو تحليل, وعلى أرض الواقع اقتصرت ممارستنا السياسية على التصفيق بمناسبة وبغير مناسبة والتزاحم على وجبات المناسف وكيلوات السكر والسمن التي يوزعها مرشحون مفبركون لما يسمى جدلا مجلس الشعب.
عندما سمحت الحكومة بالصحون اللاقطة للقنوات الفضائية فرحنا لأننا سنتمكن من مشاهدة الأفلام والمذيعات الجميلات والبرامج الترفيهية المسلية, في نفس الوقت كنا نفتح أفواهنا تعجبا لما نراه على القنوات اللبنانية من حوارات سياسية وانتقادات شعبية تصل لحد السخرية من النظام الحاكم والمسؤولين. 
كنا نشعر بذلك لأن ربع هذه الآراء المطروحة هي حتما كافية لإنهاء وجود المواطن السوري وشطب اسمه من سجل الأحياء, كنا نستمع ونتعجب ونصمت بلا أي تعليق ودون حتى أن نتجرأ على التفكير بمقارنة واقعنا السياسي في سوريا وواقع الشعوب الأخرى.
.... حرية ... حرية ... الشعب السوري ما بينذل ... 15 آذار 2011 اندلعت الثورة السورية
في أول مظاهرة في الثورة، أذكر تماما نظرات الذهول في أعين المارة والتجار حتى عناصر المخابرات وأفراد الشرطة كانوا يقفون بجمود هم لم يدركوا ما يشاهدون لم يستوعبوا أن الناس في سوريا, مملكة الخوف والرعب, كسروا حاجز الذل وصرخوا بكل جوارحهم مطالبين بالحرية الكل كان متفاجئا، حتى أنا تفاجأت من نفسي ... فهي المرة الأولى التي أصدح بما قبع على قلبي من قهر ورفض واشمئزاز منذ أن تكون لي أدنى إدراك لما نعيشه كسوريين من واقع مزرٍ.
توالت الأحداث سريعا على السوريين في الوطن والمغترب ... وأصبح ثلث الشعب السوري يضع قبل اسمه لقب ناشط سياسي .. ودأب الثلثان الباقيان على تداول السياسة ونقاشها برفقة كيس البزر أو في السهرة مع الشاي والقهوة والمشاريب وأنفاس النارجيلة. في الحقيقة ذهب الخوف .. وذهب الذهول .. وذهب الإحساس بالمفاجأة .. الباقي الوحيد الذي لم يذهب هو ذلك الفايروس اللعين الذي بات إلى حد كبير جزءا لا يتجزأ من فيزيولوجيا الخلايا الدماغية عند السوريين.
لذا نجد أن تفسير العلمانية عند الكثيرين هي المرادف للكفر والعداء للدين، وأن الدولة المدنية هي دولة الخمر والدعارة والانفلات الأخلاقي وأن الديمقراطية هي تعطيل حكم الشريعة، وأن المواطنة تنافي وتناهض الروابط بين المسلمين.
عندما حمي وطيس نقاش سياسي بيني وبين مواطن سوري بسيط طيب القلب داعم للثورة, احمرّ وجهه وغضب وقام من مقعده وصرخ: أنت علماني تنادي بالدولة المدنية .. لا تنكر .. (يا عيب الشوم عليك) .. ومشى غاضبا ناديته: يا أخونا .. فتوقف .. وعاد لي .. استغفر ربه ومسح وجهه وقال لي: الله يخليك يا أستاذ أسد لا تؤاخذني كانت ساعة شيطان أنا آسف لأني وجهت لك هذا الكلام .. وذهب .. وقفت صامتا في ذهول ثم قلت لنفسي هل كان يظن أنه حين نعتني بالعلماني المنادي بالدولة المدنية أنه يشتمني بلفظ نابٍ؟!
أمام هذا الواقع الاجتماعي استغرب من المنظرين الذين يعجزون عن تفسير انتشار الفكر الظلامي والرجعي واللاموضوعي في بلد يقطنه شعب كشعبنا يحمل إرثا ثقافيا حضاريا هائلا كالإرث السوري.
ربما نجح شعبنا في رفض العلاقة الجبرية اللاشرعية التي قامت رغما عنه تحت الحديد والنار مع نظام مجرم وثار عليه، ومازال يقدم يوميا من أبنائه قرابين للثورة وللحرية، لكن فايروس الايدز السياسي الذي نقل إلينا ما زال ينهش في وعي الأمة.

(138)    هل أعجبتك المقالة (126)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي