تتجاوز النكتة السياسية في دوافعها وأهدافها، غاية الإضحاك وإشاعة أجواء المرح والاسترخاء، خاصة في مجتمعات تتشابه ظروفها مع ظروف المجتمع السوري من حيث التفاوت الطبقي والقمع المادي والمعنوي المسلط على الحقوق والحريات، في مثل هذه المجتمعات المكبوتة تصبح النكتة السياسية نوعا من الانتقام وتتعدد وظائفها فهي مثلا في أحد معانيها تأريخ لمرحلة، وتوصيفا جمعيا لحالة سائدة من الممنوع الحديث حولها صراحة فيتم اللجوء إلى أساليب مواربة وغامضة أحيانا، منها النكتة التي تفنن السوريون في اختراعها انتقاما من ظروف القمع والاضطهاد ومن مسببيه، وكذلك تفريغا للكبت المزمن الذي عاشوه طوال عقود.
فالنكتة السياسية قد تكون مرجعا تاريخيا للباحثين والراغبين في دراسة مرحلة ما، كمرحلة أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي في سويا حين ذاع صيت رفعت الأسد شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد، كشخصية لها الثقل الأول في البلاد عسكريا وأمنيا، وعمل عساكره (سرايا الدفاع) على نشر صورته المتسلطة القوية والتي تجاوزت في مهامها ومكانتها الرئيس حافظ الأسد ذاته.
تقول النكتة إن الرئيس حافظ كان يقود سيارته في أحد شوارع دمشق وتجاوز بالخطأ إشارة المرور فأوقفه الشرطي المختص وطلب أوراقه، ظن الأسد أن الشرطي لم يعرفه فقال له (أنا الرئيس حافظ الأسد يا ابني) لكن الشرطي لم يأبه لذلك وأصر على الأوراق فيما يصر الرئيس على تقديم نفسه كشخصية مرعبة ومخيفة باعتباره رئيسا للبلاد، علت أصواتهما فحضر الضابط الذي انتبه للرئيس فامتقع وجهه ذعرا واعتذر من الرئيس وصرفه مباشرة ثم التفت الضابط نحو الشرطي بنزق وحنق قائلا: بدك تخرب بيتنا أنت؟ لك ما بتعرف أنه هاد أخوه لرفعت الأسد!
هذه النكتة البسيطة والسريعة الإيقاع، ترسم بدقة مراحل تلك المرحلة وصولا إلى صراع الأخوين الأسد على السلطة والذي كان سينتهي بكارثة على البلاد والعباد، فالصراع على السلطة كان على أشده بين الأخوين، وكانت الغلبة في بدايته للشقيق الأصغر (رفعت) وهذا ما تدونه النكتة والتي نستطيع الاتكاء عليها كوثيقة تاريخية ترسم ملامح تلك المرحلة.
طرفة أخرى تتصل بموضوع توثيق السطوة التي بلغها رفعت الأسد في تلك الحقبة وفرض هيمنته على الشجر والبشر والحجر حيث تعدى نفوذ رفعت السيطرة على الرجال إلى النفوذ والسطوة على نساء المسؤولين (ربما يدخل هذا النوع من النكت في باب التوثيق والانتقام أيضا) إذ تقول النكتة أن أحد المسؤولين سأل رفعت عن سر قدراته في إيقاع النساء فقال له رفعت أن هناك إشارة ما يقوم بها مع النسوة فيقعن في غرامه فورا، وحين عاد المسوؤل متحمسا إلى بيته ليجرب الإشارة التي أخذها من رفعت حدث التالي:
اختبأ المسؤول خلف باب الحمام وحين مرت زوجته دون أن تنتبه له، ربت الزوج على مؤخرتها فقالت الزوجة بغنج ودلال: (أنت هوني يا رفعت؟). كما ذكرنا سابقا، هذا النوع من الطرف يحمل وظيفتين في آن واحد فهي مع كونها وثيقة، تحمل روحا انتقامية من صمت المسؤولين على تجاوزات رفعت الأسد ورجاله.
كان الشعب السوري يدرك أن وظيفة رئيس الوزراء في ظل الحكم الفردي الديكتاتوري للرئيس حافظ الأسد ليست أكثر من (رجل كرسي) ولذلك انتشرت الطرف التي تتناول هذه الحقيقة وذاعت طيلة فترة حكم الأسد الأب وكانت تتجدد مع كل إعلان عن حكومة جديدة، منها على سبيل المثال أن حمارا اقترب من موكب رئيس الوزراء عبد الرؤوف إبان مجازر حماة عام 1982 وسأله بلهفة: ما الذي يحدث في حماة يا سيادة رئيس الوزراء؟
فرد الكسم: والله متلي متلك ...ما بعرف شي.
النكتة السياسية أيضا نوع من انتقام وهمي تلجأ إليه الفئات المقهورة والمضطهدة كخيار يولد بعضا من الراحة النفسية وتفريغ المكبوت، فحين أصدر الكسم ذاته في فترة الثمانينيات من القرن الماضي عددا من الإجراءات التقشفية التي أثقلت على كاهل الفئات الفقيرة والمسحوقة والتي كانت تعاني أصلا من الفقر والفاقة، انتشرت مجموعة من الطرف السياسية التي تتناول الكسم شخصيا ناهيك عن نتائج قراراته وانعكاساتها السلبية على الشعب. منها أن الكسم زار حديقة الحيوان في مصر والتقط صورة مع مجموعة من القرود وأرسل الصورة إلى عائلته وكتب على الصورة مشيرا لنفسه لتمييزه عن القرود: أنا في الصورة رابع واحد على اليمين.
وغيرها الكثير من النكات التي كان للكسم النصيب الأوفر بين رؤوساء الحكومات المتعاقبة من التهكم والسخرية.
من النكت الانتقامية أيضا والتي تطال شخص الرئيس الأسد الأب ذاته أن رجلا اعتاد رواية النكت عن الرئيس فاعتقلته المخابرات السورية (لاحظ القدرات الخارقة للمخابرات في اعتقال شخص مجهول الاسم والسكن وكل شيء) وقام رجال الأمن بتعذيبه ثم وعد بعدم تكرار فعلته، لكن ذنب الكلب أعوج وعاد الرجل إلى عادته في رواية النكت عن الرئيس، فاعتقله رجال الأمن مرة أخرى، وأكد لهم أنه لا يكره الرئيس، وإنما هي عادة لا يستطيع التخلص منها فطلب منه رجال المخابرات أن يرفق في آخر كل نكتة يقولها الجملة التالية (بس الرئيس والحمد لله ما دخله) وحين خرج الرجل من المعتقل قال لمجموعة من أصدقائه أن زوجة الرئيس حامل وأردفها بالجملة(التوصية الأمنية) بس الحمد لله ...الرئيس ما دخله.
النكتة السابقة انتشرت بعد مجازر حماة مطلع الثمانينيات من القرن الماضي وهي تحمل معنى من معاني الانتقام للشرف المسفوح في تلك المدينة التي ذاقت الويلات على أيدي جيش الأسد ورجاله.
من وظائف النكتة السياسية أيضا وأهدافها الخفية، أنها تمثل حالة التوصيف لحقبة تاريخية، كما تحمل بعضا من التحليل السياسي الشعبي البسيط، كارتباط مصالح الطائفة العلوية بالنظام، واعتبار أنفسهم أبناء سلطة وباقي المواطنين درجة ثانية، فلا شك أن النظام وعبر أربعين عاما نجح في خلق نوع من المصالح تربطه بأبناء الأقليات وخاصة أبناء الطائفة العلوية التي ينتمي إليها.
تقول النكتة إن شابا علويا أراد السفر من دمشق إلى جبلة، فصعد إلى الحافلة وجلس في المقعد خلف السائق، ولأنه يعرف سطوة لهجته الساحلية وقدرتها على خلق الرعب لدى المستمع فقد اتكأ كثير على حروف القاف:
شاب: ولك حيوان ..أنا رح نام شوي ...بس نوصل لمفرق جبلة فيقني هه
ابتلع السائق الإهانة مضطرا وقال: حاضر
بعد نصف ساعة هبّ الشاب من غفوته وصرخ بالسائق:
ولك جحش ..ما قلتلك فيقني بس نوصل عا مفرق جبلة؟
يبتسم السائق مضطرا :حبيبي لساتنا بمنطقة النبك وبعيدين عن جبلة لسه. يعود الشاب لغفوته ويتكرر استيقاظه أكثر من مرة معيدا ذات الشتائم ومذكرا السائق بوجوب إيقاظه على مفرق جبلة، وفي المرة الأخيرة فاض الكيل بالسائق ولم يعد يحتمل الأهانات فأوقف الحافلة جانبا وهو يرد الشتائم والسباب، اعتذر له الشاب العلوي هذه المرة مبتسما وضاحكا ثم التفت نحو زميله في المقعد هامسا: هلق صار شي انقلاب عسكري وأنا نايم شي؟
هذا الاستغراب الذي بدا على الشاب العلوي من ردة فعل السائق الذي ثار وأرعد وأزبد، تشير بوضوح إلى أن الشاب لم يكن ليجرؤ على التحدث مع السائق بتلك اللهجة المتعالية لولا أنه يستند إلى نظام أمني يدعمه ويدعم شعوره بالتفوق على أقرانه من المواطنين لا لشيء إلا لأنه ينتمي إلى طائفة الرئيس، وكذلك إدراكه أن الشعب لن ينتفض ضد هذه الحالة وضد امتيازات العلويين إلا إذا فقد العلويون السلطة، وهذا واضح في سؤاله المستغرب لزميله في المقعد حول الانقلاب العسكري.
دخلت مدرّسة إلى أحد الصفوف الابتدائية في بداية العام في قرية تسكنها غالبية من الطائفة العلوية وسألت الطالب الجالس في المقعد الأول عن اسمه فرد التلميذ بأن اسمه علي.
المدرسة: شو طموحك بالمستقبل يا علي؟
علي: أني صير ضابط بالمخابرات
تنتقل المدرسة إلى التلميذ الآخر وتسأله عن اسمه فيجيب ان اسمه علي أيضا
المدرسة: شو طموحك تصير بالمستقبل يا علي؟
علي2: بدي صير ضابط طيار
يتكرر السؤال وتتكرر الإجابة ذاتها أن الاسم علي والطموحات ذاتها فإما أن الولد يحلم بأن يصبح ضابطا في مهمة أمنية أو عسكرية أو مسؤولا في مفاصل الدولة، إلى أن تصل المدرسة إلى تلميذ يجلس متكوما على نفسه بذل وخوف في المقعد الأخير بالصف ،تسأله المدرسة عن اسمه فيجيب بأن اسمه (جورج).
المدرسة: شو طموحك تصير بالمستقبل يا جورج؟
جورج: بتمنى صير علي.
شعر السورين أن حافظ الأسد لن يموت، خاصة وأن أعراض المرض باتت واضحة على محياه، حتى أن السوريين اقتنعوا بأنه خالد في الحكم إلى أبد الآبدين، وأنه حتى الموت لا يستطيع أن ينجيهم من حكمه فهو قدر مائل أبدا، وانتشرت هذه النكتة مع ظهور وانتشار شعار (قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد) فجاءت النكتة لتسخر من الشعار وتوثق لمشاعر الناس ووعيهم الفطري في تلك المرحلة..
جاء مواطن إلى مفتي سوريا وقال له إنه شاهد المرحوم فريد الأطرش في المنام يقترب في فجر يوم عيد الفصح من الجامع الأموي وإنه التقى مصادفة مع الرئيس حافظ الأسد الذي كان يريد أن يصلي صلاة العيد في هذا المسجد كالمعتاد وأن فريد أخذ حافظ الأسد وطار به في السماء، وسأل المواطن مفتيه عن تفسير هذا الحلم فقال المفتي: تفسير الحلم يا بني أن الله سبحانه وتعالى سيعيد إلينا فريد الأطرش للحياة للتنعم بصوته الشجي.
مع وصول بشار الأسد إلى الحكم خفت النكتة السياسية وبات وجودها نادرا وأعتقد أن هناك سببان لهذا التراجع في وتيرة النكتة السياسية هما أن الشعب توسم خيرا ببشار على اعتبار ما كان يسوق له الإعلام المحلي وحتى العربي من أنه ليبرالي ودرس في أوربا وأنه سينقل سوريا إلى عصر جديد من الانفتاح والديمقراطية، والسبب الأخير وهو الأهم في اعتقادي، أن الشعب شعر ضمنيا بأن هذا الرجل لا يستحق حتى الحديث عنه، إلا أن الأمر لا يخلو من انتشار بعض النكت التي توثق المرحلة خاصة مع بدايات تسلم الأسد الابن للحكم بطريقة السطو واللصوصية عبر مجلش الشعب وتعديل القوانين والدساتير بما يتلاءم وظروف تتيح تسلم بشار الحكم دون مشاكل تذكر.
تشير نكتة إلى وقائع تسلم بشار للحكم فتقول إن بشار توفي فجأة وكان عمر ابنه حيدرة ثمانية أشهر فاجتمع مجلس الشعب وقرر تعديل الدستور بحيث يصبح ممكنا لمن عمره ثمانية أشهر وفوق أن يتسلم منصب رئيس الجمهورية فخرج الشعب السوري في مظاهرات تأييد لقرار مجلس الشعب وللتعديل الدستوري هاتفا: أنكغغغغغ ...انكغغغغ ..أمبوووووووو.
وهي المداعبة التي يعتمدها الكبار في لعبهم مع الأطفال، ولا تخفى على القارئ المعاني والدلالات التي تحملها هذه النكتة من وعي سياسي – عفوي وفطري، يحلل المرحلة ويرسم ملامحها بدقة.
مع انطلاق الثورة السورية، وهي الحدث الأهم في تاريخ البلاد المعاصر، عادت النكتة السياسية لتشهد نشاطها السابق، ولتحمل وظائفها المعتادة في التوثيق والتوصيف وحتى التعويض عن القهر، فمع انتشار الكذب والدجل الإعلاميين عبر وسائل الميديا السورية الحكومية والخاصة والتابعة للنظام، انتشرت نكتة تشرح وعي الناس لما يجري في الوطن وما يتعرض له الشعب من إبادة وقتل وتدمير تحت ذريعة المقاومة والمؤامرة والقضاء على المؤامرة الأمرو_إسرائيلية.
الأسد الابن يستحم في حمام نور الدين الشهيد، وهو حمام شهير في قلب دمشق القديمة، وحين جاء لدفع الحساب طلب منه صاحب الحمام خمسين ألفا، يستغرب بشار المبلغ ويقول للحممجي:
بشار: كنتوا تاخدوا من بابا عشرة آلاف ليرة بس ..ليش بدكن مني خمسين ألف؟
يرد الحممجي ببراءة : يييييي ...سيدنا أنت أوسخ من أبوك بكتيييييرررررر
مع ازدياد حدة الدمار والقتل، وإلقاء التبعات في ذلك على كلا طرفي الصراع، انتشرت نكتة تؤرخ لموقف الشعب أو لنقل لموقف المحايدين والكتلة الصامتة من الصراع، ذلك أن مجموعة من شهداء الجيش الحر دخلت إلى الجنة لتفاجأ بوجود مجموعة من شهداء الجيش النظامي، فاستغرب كلا من الطرفين وجود الطرف الآخر في الجنة، ثم تساءلوا عن مصير الشعب السوري ..أين هو الشعب السوري؟
يجيبهم أحد الملائكة إن الشعب السوري ذهب إلى النار، وحين استفسروا عن السبب قال الملاك:
الجيش الحر يحرر وجيش النظام يطهّر والشعب السوري يكفر بالذي خلقكما فكان مصيره جهنم!
الحقيقة أن الحديث عن النكتة السياسية في سوريا أكبر من أن يستوعبه مقال في جريدة، خاصة إن أردنا التفصيل في دراسة وظائف وبواعث وأهداف ومسببات النكتة السياسية، فهي معقدة بتعقيدات المجتمع السوري.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية