أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

الوحدة بين مصر وسورية: شهد شاهد من أهله! ... محمد منصور


أتابع منذ أسابيع علي قناة (الجزيرة) شهادة وزير خارجية مصر الأسبق الدكتور مراد غالب، ضمن سلسلة حلقات (شاهد علي العصر) مع المذيع اللامع أحمد منصور، الذي يتميز عن غيره من الإعلاميين الذين يسجلون شهادات من هذا النوع، أنه يخرج من إطار المستمع المبهور بتاريخ ضيفه، والأدوار التي لعبها في مسيرة حياته، والمهمات التي اضطلع بها في مسيرته الحافلة، نحو محاكمة ذلك التاريخ... ومحاكمة الضيف أحياناً... ليس من منطق قيمي أو أخلاقي، وإنما من منطق قراءة سياق ذلك التاريخ، وتحليل أبعاده السياسية ورسائله وعبره سواء علي الصعيد العام أو علي الصعيد الشخصي.
ومن هذا المنطلق اتخذ أحمد منصور، موقفاً تحليلياً من قضية الوحدة بين مصر وسورية، التي كان مراد غالب شاهداً من شهودها... قال أحمد منصور لضيفه في سياق تبيان ملامح الاختلاف بين البلدين: (النظام في سورية كان نظاما شبه ديمقراطي، أو كان ديمقراطيا. كانت هناك حرية، كانت هناك انتخابات حرة، كانت هناك أشياء كثيرة وهنا نظام حكم الفرد في مصر). فرد مراد غالب: (شوف هو ده صحيح... ده بقي واضح تماما في مسار الوحدة، يعني إيه مثلا، عندهم الحاجب اسمه الآذن، يعني الذي يأذن بالدخول. لكن الحاجب عندنا الذي يحجب الدخول. وبالتالي قالوا، الله... أنتم عندكم حاجة عجيبة جدا، عندكم حاجب وإحنا عندنا آذن).
وقد أضاف أحمد منصور متابعاً حواره التحليلي: (لن أقف كثيرا عند ممارسة الوحدة، ولكن أكرم الحوراني في مذكراته يقول إنه كان نائباً لرئيس الجمهورية وجاء إلي هنا إلي مصر وأنه كان ينتظر عدة أيام حتي يقابل عبد الناصر أو يحدد له موعدا لمقابلته)... لم ينكر الدكتور مراد غالب هذه الوقائع، بل رد ببساطة: (هذا صحيح تماما، أنا كنت ساكن أيامها في شارع الجزيرة نمرة 14، وكان الشقة اللي جنبي علي طول صلاح البيطار ساكن فيها، والعمارة اللي جنبي علي طول كان أكرم الحوراني ساكن فيها، فكنت مختلطا بهم اختلاطا كبيرا جدا. الشكوي هي الآتي: أنه ليس هناك مشاركة في هذا الحكم، يعني حكم جمال عبد الناصر وحكم مصر ليس لهم مشاركة، يعني ما فيش مشاركة في هذا النظام، ثم إنه ما فيش ثقة، ما معني أن نائب رئيس الجمهورية العربية المتحدة يقعد أيام علشان خاطر يقابل جمال عبد الناصر يعني؟ طبعا كان يشكو من هذا مر الشكوي) أكثر من ذلك تحدث د. مراد غالب عن أن المصريين لم يكن لديهم: (سياسة وقناعة وإدراك لعملية الوحدة) وعن أنهم بدؤوا يقللون من شأن السوريين: (لدرجة أنه لما راحوا المصريين هناك... قالوا إيه ده.. ده نهر بردي اللي بتقولوا عليه؟ ده ما يجيش ولا قناة قد كده عندنا)؛ ثم ذهب إلي القول (لا يمكن أن تنجح الوحدة بهذا الشكل، يعني تروح وأنت في ذهنك السيطرة علي هذا البلد، يعني مين اللي يقبل هذا؟) وانتهي د. مراد غالب إلي الاعتراف بشجاعة ردا علي سؤال محاوره: من المسؤول عن إفشال عملية الوحدة: (أنا أعتقد أننا نتحمل الجزء الأكبر) وعندما سأله أحمد منصور (أنتم مين) أجاب: (الجانب المصري) وعندما حاول منصور الدفاع عن الشعب المصري قائلا: (الشعب ده غلبان مالوش دعوة باللي كنتم بتعملوه) أجاب د. مراد ضاحكاً ومؤكداً: (ده مش غلبان ولا حاجة، برضه كان هايص وكان مبسوط).
أحببت أن أنقل جانباً من هذا الحوار، لأنه يشكل بالفعل شهادة علي العصر... شهادة علي عصر الوحدة بين مصر وسورية، التي كنا نتغني بها شعاراتياً وقومياً، وننسي آلامها وأخطاءها علي أرض الواقع... تلك الآلام التي أفشلت الوحدة، وشكلت نموذجاً سلبياً، بدل أن تكون مثالا يحتذي. وأعتقد أن أكبر الجرائم التي مورست في حق تجربة الوحدة منذ انفصال مصر وسورية قبل أكثر من أربعة عقود ونصف... أن أحداً لم يبادر إلي تشخيص أسباب فشلها بصدق وواقعية... ثمة من سارع إلي رمي التهمة علي الاستعمار، واكتفي بالقول إن تكالب القوي الاستعمارية هو الذي أجهض تجربة الوحدة، وثمة من رأي أن الاتجاه القومي هو المستهدف، أما حزب البعث في سورية، فقد كانت إحدي مبررات انقلابه العسكري في الثامن من آذار (مارس) عام 1963 والذي استلم به الحكم في سورية هو (الاقتصاص من الزمرة الانفصالية المجرمة التي قوضت أركان الوحدة)، واستلم الحكم وأقصي تلك الزمرة الانفصالية، لكن بقي هدف الوحدة مجرد شعار، تحشي به مقررات التربية القومية في المدارس لا أكثر!!
وحين قام مسلسل (خان الحرير) للكاتب نهاد سيريس والمخرج هيثم حقي قبل أكثر من اثني عشر عاماً، بتقديم قراءة نقدية في تجربة الوحدة بين مصر وسورية، تقترب كثيراً مما قاله وزير خارجية مصر الأسبق في برنامج (شاهد علي العصر) هذا، قامت رقابة حزب البعث في التلفزيون السوري، بحذف أجزاء ومشاهد بحجة أنه يسيء لتجربة الوحدة!
وأذكر أنني قبل سنوات كنت في مصر لحضور مهرجان سينمائي، وكنت أتحاور مع أحد المثقفين المصريين، في قضايا عدة فكان يأخذ ويعطي.. ويقبل ويرد... إلي أن أتي علي ذكر تجربة الوحدة، فكان له فيها رأي واحد لم يقبل مني به أي نقاش: (عبد الناصر عمل الوحدة عشان ينقذكم من الإفلاس... أصل الخزينة السورية ما كنشي فيها ولا ليرة سوري!!)
شعرت بالأسي حينها، لهذا المستوي من الاعتقاد الراسخ بالأكاذيب، ومن النظرة الأنانية والاستعلائية التي ما زال يكنها بعض الإخوة المصريين تجاه الوحدة... لكن ذلك لم يثنني عن أن ألمس الروابط الأخوية التي أحسها كسوري حين أزور مصر... ولهذا أشعر بأهمية شهادة الدكتور مراد غالب التي تابعتها في برنامج (شاهد علي العصر)، ونزاهة أحمد منصور في توجيه دفة الحوار... وفي النهاية ليس لأي سوري ثأر مع الوحدة كمفهوم أو كحالة، لكن المشكلة بعد انفراط عقدها، هي في تحويلها إلي شعار، والحديث عنها كأمنية وحلم... لا كهدف عملي، وفوق ذلك في إبقائها في إطار الهتاف والهيصة... ثم غض النظر علي أخطائها علي أرض الواقع، بحسن أو سوء نية... كي تبقي شعاراً نظرياً وحزبياً غير قابل للتحقيق أبداً!!

خياط للسيدات سينما الوحدة السورية المصرية!

حين كنت أكتب المقطع الأول من هذا المقال، تصادف علي قناة (الساعة) عرض فيلم (خياط للسيدات) للثنائي الكوميدي الشهير دريد لحام ونهاد قلعي بمشاركة المطربة المصرية المعتزلة شادية، ومن إخراج المخرج المصري عاطف سالم!
والواقع أنني عثرت علي النموذج الفني لصورة الوحدة بين مصر وسورية في هذا الفيلم... الذي جاء ضمن سلسلة أفلام مثلها دريد ونهاد مع نجوم الفن المصري بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات، وأنتجها منتجون سوريون، وتعاقب علي إنتاجها مخرجون مصريون أو لبنانيون أحياناً!
في فيلم (خياط للسيدات) الذي أنتج عام 1968، الفنان نهاد قلعي هو زوج المطربة شادية التي تتحدث اللهجة المصرية، بينما يتحدث هو اللهجة السورية. لا يهم فيمكن لأي سوري أن يتزوج من أي مصرية وكل يتحدث لهجته والعكس صحيح... لكن المشكلة الحقيقية أن دريد لحام هو شقيق المطربة شادية في الفيلم، وهو يتحدث اللهجة الدمشقية بينما شقيقته تتحدث المصرية.. والأطفال حين ينطقون في مواضع نادرة في الفيلم... لا يتكلمون لهجة أمهم شادية بل خالهم دريد!!
العادات الغذائية في الفيلم مزيج من سوري ومصري كيفما اتفق، يعني ديك رومي علي ملوخية... وهو طبق غير معروف في دمشق التي تدور فيها الأحداث، والتي صور الفيلم فيها كاملا!
والباعة الجوالون يبيعون الديك الرومي في أقفاص، في تقليد مصري غريب تماما عن الباعة الجوالين في شوارع دمشق... والحوار الدرامي كلمة من هنا وكلمة من هناك... وقفشة مصرية علي نكتة سورية!
طبعا قد يعتبر البعض هذه التفاصيل هامشية، لكن في عمل سينمائي درامي ليست كذلك علي الإطلاق، ولذلك فهذه الأفلام يمكن أن تقدم معادلا رمزياً لصورة الوحدة المرتجلة والمفبركة بين مصر وسورية... صورة فيها نجوم، وفيها علاقات وزيجات، وفيها تعايش مشترك وألفة... لكن ليس فيها انسجام حقيقي حتي بالمعني الفني... وهي اليوم ليست سوي جزء من التاريخ أو ذكري منه كما تجربة الوحدة نفسها!

إسماعيل ياسين في دمشق الشيء بالشيء يذكر!

وبالمناسبة لم يوفر الأشقاء المصريون السينما من الدعاية للوحدة... فقد أنجزوا في عهد الوحدة عام 1959 فيلماً لإسماعيل ياسين صور في دمشق بعنوان (إسماعيل ياسين في دمشق) والفيلم بالفعل ذكري جميلة من زمن الوحدة، لأنه يصور إسماعيل ياسين، وهو يتوه في مطاردات ماراثونية في شوارع دمشق، فيقدم لنا لقطات ساحرة عن دمشق وشوارعها وأحيائها في تلك الفترة بكاميرا السينما المصرية قبل انطلاقة البث التلفزيوني، وفي زمن لم تكن قد أسست فيه مؤسسة عامة للسينما في سورية، وكان الإنتاج السينمائي السوري خاصا ومحدودا...
شخصياً لا أعتبر إنهاء الوحدة للتقاليد البرلمانية السورية والنظام الديمقراطي الحر أجمل عطاءات الوحدة... ولا أعتبر تقوية حكم أجهزة المخابرات لعبد الحميد السراج في ذلك العهد، وما رافق ذلك من تجاوزات بشعة أفضل مغانم الوحدة... بل اعتبر فيلم (إسماعيل ياسين في دمشق) أجمل وأطرف تذكار من عهد الوحدة... وربما شاهد عصر من نوع مختلف!

القدس العربي
(115)    هل أعجبتك المقالة (110)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي