أثارت مقالة الخليج الفارسي المنشورة في عدد إيلاف يوم الاثنين 31/مارس 2008 ردود فعل حادة ومتباينة حول عروبة الخليج من عدمه. ولم يكن في إطلاقنا تلك التسمية إلا توخياً للدقة وتمشياً مع الحقائق التاريخية الدامغة والصارمة والتي لا ترحم، وبعيداً عن نزعة الشعوبية والمجوسية الحاقدة التي كالها البعض والنابعة من تركيبة وبنية العقل العربي المعطوب أبدياً، والتي نتفهمها كلياً. ولا أدري في الحقيقة ماذا حققت لهم عروبتهم؟ وما هي هذه الميزة والمكسب والكنز الفريد في العروبة حتى يتباكى عليها المتباكون ويلطم عليها اللاطمون بهذا الشكل الرومانسي الجنائزي المهيب؟
فلقد وردنا الكثير من الرسائل التي تعكس تلك المواقف والآراء. وبعيداً عن أي سوء فهم وتأويل للموضوع، فلم ننطلق من إطلاق لفظة الخليج الفارسي على ذاك الممر المائي إلا من خلال وقائع وسرد لتاريخ المنطقة ومن خلال رؤية ومنظور موضوعي للجغرافيا والتاريخ وبعيداً عن كل النزعات الشعبوية والعصبوية ولاسيما العروبية منها والتي يحاول البعض إحياؤها وهي رميم، ومن خلال ما يرد ذكره في الكتب والنشرات والبيانات الإعلامية الصادرة عن "أصدقاء" الخليجيين الحميمين بالذات. ونحن هنا بصدد الحديث عن الضفة الشرقية للخليج التي يطلق عليها البعض زوراً اسم الخليج العربي. وتوضيحاً لذلك، ربما كان هناك نوع من النشاط والتجمع السكاني والتجاري الأكثر رقياً في المناطق الداخلية لشبه الجزيرة العربية كمكة والمدينة ولكنها كما قلنا لم ترتق لتتحول إلى كيان حضاري مركزي كما هو حال الحضارات الكبرى في التاريخ كالبابلية والفينيقية والرومانية والفرعونية ...إلخ. وما يعنينا، تحديداً، و كما أكدنا في المقال السابق أنه لم ينشأ أي نوع من الحضارة على الضفة الشرقية للخليج، والتي تزدهر اليوم بفعل اكتشاف البترول ولكونها أضحت معسكرات للعمل ليس إلا ولا تصلح للعيش البشري تدير إنتاج النفط وتصدره للغرب، وتشكل مناطق لقواعد عسكرية واستراتيجية هامة لقوى دولية نافذة في المنطقة.
وما حصل تاريخياً أنه، ومع اكتشاف النفط، تم اكتشاف مجموعات متناثرة من القبائل التي تتكلم العربية وتدين تاريخياً بالإسلام على أنقاض المسيحية واليهودية التي كانت سائدة قبل انتصار الإسلام نتيجة سياسة الغزو التي اتبعت في هذه المنطقة. هذه القبائل لم تكن تمتلك عوامل الكيانات السياسية للدولة بمفهومها الحديث القائم على المؤسسات وتقاسم السلطات الثلاثة وتداولها الديمقراطي، وكانت عبارة عن مشيخات قبلية أبوية تحكم من قبل زعيم أقوى القبائل التي كانت تتصارع وتتقاتل أحياناً لاقتسام النفوذ والسلطة والثروة فيما بينها. وكانت تلكم القبائل تعيش بشكل بدائي على القنص والصيد والرعي والغوص، وقلما تجد لها تراث أدبي مزدهر ومكتوب فني أو موسيقي أو مسرحي وسينمائي مع الاعتراف بوجود نوع من الشعر الشعبي المتوارث لا العربي الموزون كما وزنه الخليل بن احمد الفراهيدي في علم العروض. وكانت الحياة تسير في مجمعات ذات نمط رعوي بعيدة عن أية أشكال عمرانية عصرية، إذ لا وجود لأية أوابد حضارية بارزة تعكس نشاطاً وحياة بشرية مدنية مستقرة تكون نواة التشكل الحضاري كتدمر وبصرى وأثينا، أو أوابد تاريخية كبرى كالأكروبوليس مثلاً، أوتمثال زيوس، والمسارح الرومانية والمساجد التاريخية القديمة والأبنية ذات الطراز والفن المعماري الروماني أو الغوثي أو العربي الذي انتشر في الأندلس مثلاً.
وتطورت هذه التجمعات القبلية فيما بعد، مع اكتشاف النفط على أيدي الغربيين تحديداً لتصبح دول المدن City-States، كما يطلق عليها بعض البحاثة والكتاب والاستراتيجيون الغربيون وهناك دول لا يتجاوز عمرها، وتاريخها السياسي لا يمتد لأكثر من أربعين عاماً، ولم تكن معروفة على الخارطة السياسية والجغرافية قبل هذا التاريخ؟ ومع عائدات النفط الهائلة، وتحقيقاً لمتطلبات النهضة، وبما أن دول المدن، أو مدن الملح طبقاً للروائي عبد الرحمن منيف، لا تملك مخزوناً بشرياً، وتعاني فراغاً وخللاً ديمغرافياً فقد تم "استيراد" شعوباً، نعم استيراد شعوب بأكملها لتشكل نواة النهضة والموظفين وحتى الجيوش الوطنية. وكانت غالبية هذه الشعوب "المستوردة" من دول شرق آسيا وتحديداً الهند وباكستان وإيران للقيام بأعباء النهضة والتنمية الخليجية ولا تتمتع هذه الشعوب المستوردة بأية حقوق وتعامل بإجحاف وغبن ملحوظ. وحين يتم الحديث عن غنى هذه الدولة الخليجية أو تلك، فلا يغرنكم ذاك الحديث أبداً، فإن الحديث ينطوي على الكثير من المكابرة والخداع والزيف نظراً لأن الناتج والدخل القومي لهذه الدولة لا يوزع إلا على تلك النسبة الضئيلة من السكان التي تشكل ما نسبته الـ 15% من إجمالي عدد السكان، أحياناً فيما تحرم غالبية السكان الآخرين من الوافدين والمقيمين من دخل ورواتب تلبي متطلبات الحياة مرتفعة الأعباء والتكاليف وتعاني شظغ الحياة وضنكها ويوجد تفاوت طبقي مريع ومرعب ولا يوجد مثله في أساطير ألف ليلة وليلة. ولو وزع ذاك الدخل بشكل عادل على مجموع السكان لأصيبت تلك الدولة بعجز مالي مزمن وصار حالها كحال شقيقاتها العربيات ولتساوت كلياً مع المنظومة الشرق أوسطية الفقيرة. وفي أحدث تقرير إحصائي صدر عن دولة الكويت جاء فيه أن السكان العرب الكويتيين يشكلون ما نسبته 30% بالمئة من مجموع السكان البالغ حوالي ثلاثة ملايين نسمة، أي أن المقيمين الآسيويين يعدون حوالي 2 مليون نسمة أي أنهم عالبية سكانية فمن أين للعروبة أن تأتي وتعيش وتزدهر هنا؟ وهذا ينسحب كلياً، وبنسب متفاوتة تزداد صعوداً في بعض الدول كالإمارات مثلاً، على جميع منظومة مجلس التعاون الخليجي.
هذه الأكثريات الآسيوية، ولن نتكلم هنا عن الفارسية او الإيرانية ودرءً للحساسية التي تسببها اللفظة لدى البعض، طبعت الخليج بطابعها لغوياً وسلوكياً وتربوياً وحياتياً، وكان يطلقون على دبي مثلاً، اسم بومباي لكثرة تواجد العنصر الهندي الغالب فيها. وعليك اليوم أن تتقن اللهجة العربية "المكسرة" والمطعمة بلكنة هندية أحياناً لتستطيع أن تعيش وتتأقلم في أي بلد خليجي وتسد أودك وجوعك بأي نوع من السندويش أو "الكيما" الهندية. ولا ينفعك هنا لسانك العربي، ولا جنسيتك وأصولك العربية سليلة قحطان وعدنان، في أي عمل ووظيفة وأمور حياتية ومن الواجب إتقان اللغة الإنكليزية "تبع" اليهود والنصارى، ماغيرهم، للتنعم بعيش حر كريم . وصارت اللغة الهندية العربية Indo-Arabic( العربي المكسر والمطعم بالهندي)، هي اللغة الرسمية والسائدة في الشارع والمدرسة والمصنع والبيت. ويعكس المسلسل السعودي الفكاهي الرائع طاش ما طاش لعبد الله السدحان وناصر القصبي ومن إخراج عبد الخالق الغانم، وبسخرية مرة ولاذعة في الكثير من حلقاته ذاك الطغيان السلوكي والفونولوجي الآسيوي في دول الخليج (....) أي خليج تودون هذه المرة؟ وناهيكم هنا، طبعاً، عن تحول الخليج وفي بعض دوله إلى مركز للقواعد العسكرية والنفوذ والهيمنة السياسية الأمريكية والسياحة الجنسية. وأما البوارج والأساطيل وحاملات الطائرات فهي فارسية وأمريكية، ويندر أن تعثر على قوة عسكرية بحرية عربية خالصة في طول الخليج وعرضه تحميه من غدر "الغادرين والمتربصين"، ما خلا تلك الدوريات لخفر السواحل البسيطة التي لا يمكن التعويل عليها بحال من الأحوال، واعتبارها من ثم مقياساً لعروبة الخليج المزعومة. وكانت إيران في عهد الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي رابع جيش عسكري في العالم وتهيمن على سياسات الخليج وتحاول اليوم أن تحيي ذاك الدور التاريخي ويبدو أنها قطعت شوطاً لا بأس فيه فيما العرب لاهون عابثون منشغلون عنها بما تعرفون وتدركون. إذ فرضت إيران الشاهنشاهية على نظام صدام نظام حسين القوي في 6مارس/آذار 1975 اتفاقية لإعادة ترسيم الحدود في منطقة شط العرب وقعها صدام بنفسه بصفته آنذاك كنائب لرئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، وشاه إيران وقسمته بالفعل مناصفة بين إيران والعراق مقابل أن توقف إيران دعمها للمعارضة الكردية في الشمال، وقد مزقها صدام حسين لاحقاً بعد انتصار الخميني واتخذها ذريعة لشن قادسيته الشهيرة التي استمرت ثمانية أعوام تغزل خلالها الخليجيون طويلاً وكثيراً بها وبه، لكنها كانت، في نفس الوقت، أولى خطوات حفر قبره بيديه.
فمتى كان الخليج عربياً؟ سؤال برسم الإجابة.
متى كان الخليج عربياً؟ ... نضال نعيسة
زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية