إن ملايين السوريين يحملون صُوَرَهُ في جيوبهم ويشاهدونها مرات عديدة كل يوم، ويتعاملون بها ويتداولونها!!! غير أن القلائل جداً منهم يلاحظون هذه الصورة أو يكترثون ليعرفوا أي شيء عن صاحبها، أو عن مغزى أن تكون هي حيث هي!!! على وجه العملة الورقية الأكثر تداولاً، ربما، من بين بقية الفئات الورقية!!!
ليس عبثاً أو صدفة أو بغير سبب وجيه أن تُكَرِّمَ الدولة شخصية تاريخية من أبناء هذا الوطن العزيز بأن تُزَيِّنَ وجه ورقة المئة ليرة سورية بصورته وهو ابن حوران، ابن شهبا المعروف لنا وللتاريخ العربي والأوروبي، بل والعالمي أيضاً، باسم "فيليب العربي". فهو أحد الأعلام التاريخيين السوريين البارزين ممن يستحقون منا التذكير بهم والتحدث عنهم، وذلك أسوة ً بملكتنا السورية العظيمة زنوبيا، التي كُرِّمَتْ أيضاً بأن زَيَّنَت صورتُها وجهَ ورقة الخمسمئة ليرة سورية. ونعتقد أنه جدير بأن نُذَكِّرَ به من يعرفونه وأن نسلط بعض الأضواء عليه بالنسبة لمن لا يعرفون.
فمن كان فيليب العربي هذا؟ وما هي أبرز أعماله؟
في زمن كانت القوة الأعظم والأعتى في العالم القديم هي روما، حين هيمنت المفاهيم "العولمية" السائدة آنذاك على ما سواها من مفاهيم الانتماءات العرقية والثقافية والقومية واحتوتها بفعل القوة الطاغية، وبفعل القوانين والتشريعات الرومانية النافذة أيامها وكذلك الأعراف، انتشر مفهوم "المواطنة" يغاير مفاهيمنا القومية. إذ لم يكن ضرورياً أن تكون مولوداً في روما أو في شبه الجزيرة الإيطالية لأبوين "رومانيين" لتصبح مواطناً رومانياً، ولم يكن ضرورياً أن تكون لغتك الأم هي اللاتينية لتصبح مواطناً رومانياً.
فقد وصل إلى سدة الإمبراطورية الرومانية واعتلاها أشخاص من عرقيات وقوميات مختلفة لا يجمع بينهم إلا كونهم "رعايا" الإمبراطورية ضمن أراضيها الشاسعة التي انتشرت شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لتشمل كل ما هو حوض المتوسط المباشر ومعظم ما هو أوروبا اليوم. وعلى هذا القياس، وليس استثناءً من القاعدة، خرج العديد من السوريين -ولِمَ لا ؟- من جملة من خرجوا، ليتسنموا سدة السلطة وليحملوا صولجانها، وليس أقلهم فيليب العربي، موضوع بحثنا اليوم.
مولده ونشأته الأولى:
ولد ماركوس يوليوس فيليـﭙّوس في مدينة شهبا الواقعة على مسافة 85 كم إلى الجنوب من دمشق على طريق عام دمشق السويداء نحو العام 204م لوالده يوليوس مارينوس ولوالدته التي لم توصل إلينا الأخبار أو السجلات التاريخية اسمها. وكان والده، فيما يبدو، شيخاً لإحدى القبائل العربية في حوران يتمتع بقدر من الأهمية والنفوذ لدى حكام سورية الرومان آنذاك. وكان يحمل المواطنية الرومانية بدليل اسمه يوليوس مارينوس. وكانت هذه الأسماء الرومانية تطلق على من مُنِحَتْ لهم المواطنة الرومانية إضافة إلى أسمائهم القومية الأصلية. ولنا من أسماء زنوبيا وأﭙولّلودور الدمشقي خير أمثلة على ذلك. وقد انتقلت المواطنية (أو لنقل الجنسية حسب مفاهيمنا المعاصرة) الرومانية من الأب إلى ابنه بفعل الأبوة والبُنُوّة. ومعروف أن روما استخدمت العرب الغساسنة من قبيلة الأزد اليمنية للسيطرة على البادية السورية ضد البدو وحماية حدودها ضد إمبراطورية الفرس الساسانيين شرقي الفرات. وليس مستبعداً، والحالة هذه، أن يكون انحدار فيليب ووالده من غسان الذين كان تمركزهم في مناطق حوران حتى أصبحت عاصمتهم الجابية أيام الحكم البيزنطي الذي تلا الحكم الروماني. وفي حين أننا لا نعرف اسم والدته، فإنه وصلتنا أخبار عن أنه كان له أخ يحمل اسم غايوس يوليوس ﭙريسكوس الذي سبق أخاه فيليب إلى عضوية الحرس الـﭙريتوري تحت إمرة غورديان الثالث ( 238 - 244 م ). ونعرف أيضاً أن فيليب العربي تزوج من ماركيا أوتاكيليا سيـﭭيرا ابنة أحد الحكام الرومان (انظر صورة العملة التي تظهرها على أنها تحمل لقب أوغسطا أي إمبراطورة). ولقد أنجبت له ولدين: ابناً حمل اسم ماركوس يوليوس فيليـﭙّوس سيـﭭيروس (فيليب الثاني) عام 238م. ومن استنطاق العملات نعلم أنه كانت له ابنة تدعى جوليا سيـﭭيرا أو سيـﭭيرينا.
صعوده إلى السلطة:
في عام 243م، أثناء حملة الإمبراطور غورديان الثالث (238 - 244) ضد شابور الأول ملك الفرس الساسانيين، توفي قائد حرسه الـﭙريتوري (الجمهوري) المدعو تيميسثيوس Timestheus في ظروف غامضة. وهنا يقترح ﭙريسكوس، شقيق فيليب، على الإمبراطور غورديان تسمية أخيه فيليب قائداً لحرسه الجمهوري وذلك لغاية تهدف إلى أن يتحكم الشقيقان بالإمبراطور الشاب ويحكما الإمبراطورية من وراء الستار. ثم إنَّ الإمبراطور غورديان يُقتل في ظروف غامضة إثر هزيمته على يد شابور. وفي حين أن العديد من المؤرخين يشيرون بإصبع الاتهام إلى فيليب بتدبير اغتياله، تؤكد مصادر أخرى، ومن بينها وجهة النظر الساسانية أنه إنما قتل في المعركة وتبقى هذه القضية مسألة جدل لم يتم حسمها. وسنرى، فيما بعد، كيف أن بابيلا أسقف إنطاكية العظمى رفض دخول فيليب إلى قداس الفصح قبل أن يعترف بجريمته "المزعومة" باغتيال غورديان سلفه. ومهما يكن من أمر، فإن فيليب ارتدى وشاح الأرجوان الإمبراطوري عقب وفاة غورديان الثالث. وسرعان ما عاد إلى روما لتمكين مركزه لدى مجلس الشيوخ بعد أن وقـَّع معاهدة سلام مع شابور الأول مخلفاً وراءه أخاه كحاكم فوق العادة للأقاليم الشرقية. وفي روما أعلن عنه أنه الأوغسطس وسَمّى ابنه اليافع قيصراً وخلفاً له من بعده.
المنجزات التي تمت في عهده:
أول ما يخطر في بال العارفين بهذا الإمبراطور من منجزات هو اقتران فترة حكمه بالاحتفالات الألفية لإنشاء مدينة روما (يعتبر العالم 753 ق.م تقليدياً هو العام الذي تأسست فيه مدينة روما). وطبقاً للمصادر المعاصرة لهذه الاحتفالية، فإنها كانت غاية في الفخامة وتضمنت الألعاب المثيرة والعروض المسرحية في المدينة بكاملها. ففي مسرح الكوليزيوم قُتِلَ أكثرُ من ألف مصارع والمئات من الحيوانات البرية بما فيها أفراس النهر والفهود والأسود والزرافات ووحيد قرن واحد.
وعلى الصعيد العسكري، فقد بدأ عهده بغارات جرمانية أخرى على أقاليم ﭙـانّونيا وبغزو الغوط لبلاد مويسيا (ما هو بلغاريا وصربيا اليوم) على جبهة الدانوب. وتمكن فيليب من هزيمتهم أخيراً في العام 248م (أي في السنة الرابعة من حكمه)، غير أن حاميات الجيش لم تكن راضية عن النتيجة، ربما لأن نصيبها من الغنائم كان محدوداً. وسرعان ما بدأ التمرد وأعلِنَ طيبيريوس كلاوديوس ﭙاكاتيانوس إمبراطوراً في صفوف الجند. واستطاع فيليب أن يسحق التمرد وسمّى غايوس ميسيوس كوينتوس داكيوس حاكماً على الإقليم. وكانت تلك خطيئة ارتكبها فيليب سيدفع ثمنها غالياً كما سنرى لاحقاً. ولم تكن المشاكل تقتصر على جبهة الدانوب فقط، بل إن ماركوس يوتاﭙيانوس قاد تمرداً آخر، ولكن في الشرق هذه المرة، وذلك كَرَدِّ فعلٍ ليس على الحكم الجائر لـﭙريسكوس شقيق فيليب (الذي ذكرنا أن فيليب ولاّهُ على الأقاليم الشرقية بعد عقد معاهدة سلام مع شابور الأول الساساني) وحسب، بل وعلى الضرائب الباهظة التي فرضها هذا الأخير على الأقاليم الشرقية. وثمة مغتصبان اثنان آخران قاما بتمردين آخرين وهما ماركوس سيلبانّاكوس وسـﭙونسيانوس ولكن دون تحقيق أي نجاح.
وبالرغم من الأجواء الاحتفالية البهيجة التي سادت روما، إلاّ أن ذلك لم يشفع لفيليب بامتصاص حالة عدم الرضى والسخط في صفوف الحاميات الحدودية، فقد أعلن الجند داكيوس إمبراطوراً في ربيع العام 249م، وهو الذي كان قد سمّاه فيليب حاكماً على أقاليم جبهة الدانوب، ولم يُضِع داكيوس الوقت، فزحف فوراً إلى روما ليلاقي جيوش فيليب قرب ﭭيرونا في الصيف الذي تلا تمرده، وربح داكيوس المعركة التي قُتِل فيها فيليب إما أثناء القتال أو غيلة من عسكره الذين أرادوا أن يكسبوا رضا الإمبراطور الجديد ربما. وعندما وصلت أخبار مقتل فيليب إلى روما، تم قتل ابنه ووصيّ عرشه الذي لم يبلغ من العمر إلا أحد عشر عاماً فقط. وهكذا انطبق القول: اتقِّ شرَّ من أحسنت إليه.
فيليب والمسيحية:
أبدى الإمبراطور فيليب تسامحاً غير معهود وعطفاً على المسيحيين الذين سبق وأن ذاقوا الاضطهادات المتتابعة على يد أسلافه من الأباطرة الرومان. ويورد لنا أحد آباء الكنيسة المدعو هوساﭙيوس القيصري بعد زمن فيليب بـ 75 عاماً، تقريراً مفاده أن فيليب كان مسيحياً أرغمه أحد أساقفة الكنيسة أن يعترف بآثامه قبل أن يقبل مشاركته في قداس عيد الفصح. وقد أوضحت مصادر أتت لاحقاً أن هذه القصة حدثت في إنطاكية وأن الأسقف إنما هو القديس الشهيد بابيلا الذي نال شهادته في اضطهاد الإمبراطور داكيوس، خليفة فيليب، للمسيحيين. ويشير هوساﭙيوس القيصري إلى أن سبب اضطهاد داكيوس للمسيحيين إنما كان بفعل كرهه الشخصي لفيليب وقد أورد لنا هوساﭙيوس أن معلّم المسيحية والمدافع عنها أوريجين كتب رسالة إلى فيليب وأخرى إلى زوجته أوتاكيليا سيـﭭيرا. وفي حين أن من المحتمل جداً أن يكون فيليب على اطلاع جيد بالمسيحية، بل وأكثر من ذلك، أنه كان يُكِنُّ الاحترام لتعاليمها ورؤسائها، فإنه لا يمكننا الجزم في مسيحيته، بل مجرد الاشتباه بها. وأيضاً، وحيث أن فيليب العربي لم يُظهِر أي خروج عما ألفناه من أباطرة القرن الثالث باستخدامهم للرموز والألقاب الوثنية، وأنه لم يخصّ المسيحيين بأية امتيازات أو، لِنَقـُل، أية تحسينات في أوضاعهم القانونية، فإننا لا نستطيع استبعاد فكرة أنه كان يضمر الإيمان المسيحي ولا يجاهر به.
ورأينا الشخصي في مسيحيته المحتملة:
ونحن، من هذا المنظور، نستطيع أن نشير إلى مشاهدة شخصية لنا ربما رجحت كفة القائلين بمسيحيته.
وهذه المشاهدة تخص دليلاً مادياً محسوساً يمكن لأي زائر إلى شهبا مشاهدته اليوم. مدينته شهبا هذه (أو فيليـﭙّوﭙوليس أي مدينة فيليب باليونانية) التي أطلق فيها برنامجاً إعمارياً ضخماً أثناء فترة ولايته، وبرعايته. ومن أهم المنشآت التي قام بتشييدها هو المسرح الصغير هناك الذي شاهدنا على وجه إحدى الأحجار الضخمة التي تشكل الجانب الأيسر (إلى يسار الداخل من بوابته الغربية) رمزاً سرانياً مسيحياً بامتياز، وهو رمز السمكة، منحوتة بشكل نافر (طولها حوالي 30 سم) وتنفر عن وجه الحجر حوالي 2 سم. وهذا الرمز، لأنه نافر، لا يمكن أن يكون مضافاً في زمن لاحق، بل من أصل العمل.
وإن لهذا الرمز السراني دلالاته التي لا يمكننا إغفالها. فهل يمكن له أن يظهر هكذا، وبصورة عفوية في منشأة هامة لا نستبعد أن الإمبراطور فيليب قد قام بتدشينها شخصياً؟! ورمز السمكة ظل الرمز السرّاني (غير المشهور) للمسيحية الأولى إلى حين قدوم قسطنطين الكبير وإصداره لمرسوم ميلان الشهير عام 313م الذي سمح بالعبادة المسيحية في جميع أرجاء الإمبراطورية حيث بدأ ينتشر رسم الصليب رمزاً للمسيحية المعلنة. وهذه المشاهدة من شأنها أن تعزز الاشتباه باحتمال أن يكون إمبراطورنا السوري هو أول الأباطرة الذين اعتنقوا المسيحية فعلاً، ولكن دون أن يشهروها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقد روماني يحمل على أحد وجهيه صورة الإمبراطور فيليب العربي، وعلى الوجه الآخر معبداً مكرساً للإلهة روما.
عملة تحمل صورة زوجة فيليب العربي ماركيا أوتاكيليا سيـﭭيرا وتقول الكتابة اليونانية إنها أوغسطا أي إمبراطورة.
قطعة نقدية تذكارية احتفالاً بالألفية الأولى لروما.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية