"جنيف 2" ومأزق المعارضة

تحتل قصة جنيف2 صدارة الاهتمام هذه الأيام، وقد سال حبر كثير من أجلها، وجفت حناجر كثيرة، خاصة بعد الزخم الكبير الذي أعطي لها إثر مجزرة الكيماوي وما ترتب عنها من تهديد بتوجيه ضربة عسكرية للنظام وصولا إلى صفقة تسليم السلاح الكيماوي.
وضع هذا الاستحقاق قيادات المعارضة أمام أكثر من مأزق، الأول هو بين بعضها البعض، فموضوع المفاوضات مع النظام من المواضيع الخلافية أساسا بين أطراف المعارضة، بعضها يؤيده ويسعى إليه بقوة مثل هيئة التنسيق، والبعض يرفضه بقوة كالمجلس الوطني، والبعض يقبله بشروط مشددة كما سمعنا من رئاسة الإئتلاف في مؤتمر أصدقاء سوريا الأخير، لكن يبدو أن الخلاف بين مكونات الإئتلاف هو الأشد، فالمجلس الوطني المكون بشكل أساسي من قوى إعلان دمشق وتنظيم الإخوان المسلمين هدد بالانسحاب من الائتلاف في حال موافقته على التفاوض قبل رحيل النظام.
المأزق الثاني هو بين قيادات المعارضة وجمهورها، حيث سبق لهذه القيادات أن ألزمت نفسها بشروط وسقوف عالية عليها الآن التنازل عنها أو عن بعضها، وأيضا يبدو الإئتلاف في الوضع الأصعب، حيث ألزم نفسه عبرتصريحات قياداته وعبر بياناته المتعددة، وقبل هذا وذاك عبر بيانه التأسيسي بإسقاط النظام بكامل رموزه كشرط لأي حل سياسي، والآن هو مضطر تحت وطأة الضغط الدولي الذي لا قبل له برده، أن يفاوض النظام، وكأن الائتلاف الآن يدفع ثمن شعبويته وتبنيه بخفة لشعارات الشارع الثائر، أو بصيغة أخرى يدفع ثمن تخليه عن السياسة.
المأزق الثالث هو مع المعارضة المسلحة التي أصبحت صاحبة الكلمة العليا على الأرض في المناطق المحررة، بعد انحسار الحراك السلمي، والتي ترفض التفاوض مع النظام بالمطلق، وتخون كل من يجلس إلى طاولة المفاوضات مع ممثليه، الأمر الذي يعني أن من سيجلس إلى طاولة المفاوضات لا يملك أي نفوذ على الأرض.
المأزق الرابع هو مع المجتمع الدولي، وتحديدا مع الدولتين الفاعلتين في العملية، الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، فمن الواضح أن الدولتين الراعيتين ستفرضان شروط إذعان على طرفي النزاع، ورفض المعارضة لتلك الشروط أو بعضها سيضعها في موقف صعب مع راعيي المؤتمر ومع المجتمع الدولي.
أما المأزق الخامس فهو مأزق مركب، بمعنى أن إرضاء الأطراف الأربعة أمر مستحيل لأن رغباتها مختلفة إلى حد التناقض، فإرضاء المجتمع الدولي بتقديم التنازلات سيغضب المعارضة المسلحة وربما الجمهور وجزء من المعارضة السياسية، وسيبدو لها وكأنه تفريط بالتضحيات والحقوق يرقى إلى مستوى الخيانة، وإرضاء المعارضة المسلحة بعدم الذهاب أو التشدد في الشروط لتوفير غطاء على الأرض سيغضب رعاة المؤتمر والمجتمع الدولي وجزء من المعارضة السياسية ونسبة كبيرة من الشعب التي أصبحت تتوق لرؤية نهاية لمعاناتها...
ستحضر المؤتمر جميع قوى المعارضة التي ستدعى إليه، ولا قدرة لأي منها على الرفض لأكثر من سبب، أهمها أنها ليست سيدة أمرها، ومن جانب آخر فإن على قوى المعارضة حضور هذا المؤتمر لأنها يجب أن تحضر، فقد يكون فيه خير لسوريا والسوريين ونهاية لمحنتهم الطويلة إذا تم العمل عليه كما يجب، كما أن رفض العمل السياسي من العتبة هو تصرف يليق برجل حرب وليس برجل سياسة.
مصلحة الوطن وأهله تقتضي عدم إهدار فرصة حل سياسي قد لا تتكرر، مثلما تقتضي أن تدار هذه الفرصة بأعلى مستوى من المسؤولة والكفاءة والمهنية، وليس أمام قادة المعارضة إلا تحمل مسؤولياتهم، وإيجاد المخارج للمأزق المتعدد الذي وُضعوا و/أو وَضعوا أنفسهم فيه، ثم الانطلاق بعملية تحضير مسؤولة تتناسب مع حجم الاستحقاق وخطورته.
شخصيا لا أجد إلا مخرجا واحدا، يكاد يكون مخرجا لكل أزمات المعارضة، وليس لأزمة الحل السياسي فقط، لكن هذا المخرج يحتاج إلى رجال من نوع خاص لا أجدهم على الساحة السياسية السورية، رجال دولة، يتخذون مواقف تاريخية في لحظات تاريخية نزولا عند مصلحة شعوبهم ودولهم بغض النظر عن أي شيء آخر.
يقوم هذا المخرج على المصارحة والمكاشفة والاعتراف بالأخطاء والاعتراف بالآخرين والاعتراف بأن الحوار البناء المسؤول المصغي هو الذي يقود إلى الطريق، أي طريق.
على كل أطراف المعارضة أن تتصالح أولا مع فكرة وجود وضرورة وأولوية الحل السياسي، وثانيا مع فكرة أنها ليست بموقع المنتصر الذي يفرض شروطه، وثالثا مع فكرة أن المفاوضات تستلزم حكما تقديم شيء من التنازلات، ورابعا مع فكرة أن فشل هذه المفاوضات قبل بدء التفاوض أو خلاله قد يعني دخول سوريا في احتمالات أسوأها مر، منها قرار دولي بإعادة تأهيل النظام ومنحه الشرعية مجددا، ومنها دخول البلد في حالة احتراب أهلي طائفي إثني طويل يدمر كل مقومات الدولة والمجتمع، وكل ما تبقى من فرص بقائه موحدا قابلا للحياة، وسيخرج الجميع من هذا الاحتراب إلى مجتمعات مفككة ممزقة تعيش في دويلات فاشلة غير قادرة على القيام بوظائفها.
لقد تعب الناس إلى الحد الأقصى ومن حقهم أن يستريحوا وأن يبصروا أملا، وأكاد أجزم أن الجزء الأكبر من الشعب السوري، من مؤيدي الثورة ومن مؤيدي النظام، إضافة إلى جميع المحايدين، أصبح يؤيد الحل السياسي بشدة.
لا يُفهم من كلامي أعلاه تشجيع المعارضة على المشاركة بالعملية السياسية بأي ثمن والقبول بأية نتائج، إنما قصدت التنبيه إلى أن رفض العملية بالمطلق أو وضع شروط غير منطقية لها قد تكون له نتائج كارثية، كما لا يُفهم من كلامي أنني شديد التفاؤل بما سيتأتى عن هذه العملية، بل بالعكس، فإن تفاؤلي بالحدود الدنيا، وثقتي بمن يديرون العملية بالحدود الدنيا، وأجد البيئة ملوثة والأجواء مسمومة والظروف غير مواتية، لكن نتائج عدم المشاركة أشد وطأة وخطورة من نتائج المشاركة، ونتائج المشاركة غير المسؤولة أشد وطأة وخطورة من نتائج المشاركة المسؤولة، وتكمن أفضل الاحتمالات في المشاركة المسؤولة التي تبدأ بوحدة الصف والتنسيق المعمق بين كل أطراف المعارضة بخصوص هذا الاستحقاق.
شخصيا أرى أن ذهاب المعارضة إلى جنيف بأكثر من وفد وبدون تنسيق جيد بينها، هو سقوط سياسي وأخلاقي مريع لا يمكن تخيله، وستكون له نتائج وخيمة، وستدفع قيادات المعارضة ثمنه غاليا.
رفض العملية أو إفشالها خطأ كبير، كما أن الذهاب إليها بخفة ودون إعداد وتنسيق ومشاركة وتفويض خطأ أكبر، وفي الحالتين تفريط بتضحيات الناس وحقوقهم ومستقبلهم، لذلك أرى أن على المعارضة القيام بما يلي:
- أن توحد جهودها في هذا الملف، وأن تتفق على المشاركة وعلى أسسها وأهدافها وشروطها، وأن تشكل لهذا الغرض فريقا واحدا منسجما ومتفاهما، وبإدارة موحدة، وبرؤيا واضحة، ويتحدث بصوت واحد ولغة واحدة، ولديه الصلاحيات الكافية، على أن يراعى في اختيار هذا الفريق معايير الكفاءة والحنكة والبراعة السياسية.
- أن تتوجه إلى السوريين بخطاب عقلاني واقعي صريح شفاف للحصول على أعلى تأييد ممكن.
- أن تُجري حوارات مكثفة مع قيادات الحراك وقيادات الفصائل المسلحة لإقناعها بضرورة العمل السياسي وطمأنتها لجهة عدم التفريط بتضحيات وحقوق الناس والاتفاق معها على الأسس والمبادئ والخطوط الحمر، والحصول على تأييدها.
- أن يتم التنسيق الكافي بين أعضاء الفريق المفاوض والاتفاق بينهم مسبقا على الخطط والأدوار وكل التفاصل المؤثرة.
- أن يتم تدعيم الفريق المفاوض بكادر قانوني وإداري وفني رفيع المستوى لتقديم المشورة والدعم والتنسيق والمعلومات...
- أن تشترط كحد أدنى للذهاب ما يلي:
- إطلاق سراح جميع المعتقلين، وتعليق الأعمال الحربية، وفك الحصار عن المناطق المحاصرة.
- أن يحوز وفد النظام على تفويض كاف للتفاوض وإنجاز الاتفاق، حتى لا يستطيع النظام التنصل مما يتم يتفق الاتفاق عليه.
- أن تكون أهداف المؤتمر وبرامجة وطريقة عمله ومدته الزمنية واضحة بما فيه الكفاية.
- أن تتم معالجة سوء الفهم بين الولايات المتحدة وروسيا حول تفسير بنود جنيف الأول، خاصة لجهة دور الأسد ومصيره، ولجهة صلاحيات الحكومة الانتقالة الجديدة.
- أن تتعهد الدول الراعية بإلزام كافة الأطراف بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه، وبأن يتبنى مجلس الأمن نتائج المفاوضات ويصدرها بقرار ملزم تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
براعة ونجاح المفاوضين يكمن في مدى تحقيق المعادلة التالية: كيف يرحل النظام دون أن تنهار مؤسسات الدولة، ودون الانتهاء بدولة فاشلة، ودون الانتقال إلى استبداد جديد، ودون الدخول بحروب طائفية أو أهلية أو إثنية، ودون المساس بوحدة التراب؟
كيف يرحل النظام وتبقى للسوريين دولة قابلة للحياة، قادرة على شق طريقها نحو الديمقراطية.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية