أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

محمد سعيد طالب أبو حازم العفّة في السلطة والصلابة في سجونها


عاش من أجل سوريا التي تنسم هوى عشقها الأزلي في جباتا الزيت، القرية الجولانية التي ولد فيها محمد سعيد طالب عام 1936، وأطل من جغرافيتها المفتوحة – قبل احتلالها - على تواريخ الحواضر العربية، فتشرب مبكراً الفكر القومي في أطروحته البعثية، وخاض غمار العمل الحزبي في خمسينات وستينات القرن المنصرم. ولم تثنيه المواقع القيادية التي شغلها في الحزب والدولة، عن تلمس الفارق الكبير بين سطوة الأيديولوجيا ومتغيرات الواقع ،لاسيما بعد سيطرة حركة الشباطيين – التي كان من رموزها الشابة - على مقاليد السلطة عام 1966 ، ما ضاعف من إيمانه بضرورة الالتصاق بجماهير الفقراء التي ينتمي لمعاناتها، والتمسك بالنزاهة والتقشف و طهارة اليد ،التي طبعت سلوكه ورفاق مسيرته في تلك الحقبة المنصرمة، كآليات دفاعية عن القيم والمبادئ التي تمسكوا بها، و وكافحوا كي لا تنال شهوة السلطة من عفتها، ومهما اختلف الناس حول تلك التجربة بظروفها ودروسها و إخفاقاتها و بما لها وما عليها ، والتي أنهاها بصورة مأساوية انقلاب الأسد الأب عام 1970 على رفاق الأمس ، فإن الأمانة التاريخية للذاكرة السورية التي حاول نظام (القائد الرمز) طمسها وتزييف حقائقها ، تستوجب اليوم إنصاف شهودها وضحاياها. وقد كان أبو حازم أحد أولئك الذين رفضوا كل الضغوط و المغريات لإضفاء الشرعية على (الحركة التصحيحية) التي وضعت سوريا على طريق الهاوية – كما بينت العقود التي تلتها- وكان ثمن موقفه ذاك الذي تماهى مع مواقف رفاقه في القيادة السابقة، قرابة ربع قرن قضاها في غياهب السجون، طوت خلف قضبانها أجمل و أغزر سنوات حياته.
راكمت فترة الاعتقال الطويلة التي خاضها أبو حازم بكل صلابة وجسارة، تجربته الكفاحية والإنسانية الشاقة، وأمضى ما تبقى من حياته في التأمل والاجتهاد النقدي الرصين، كيما يصل إلى إجابات عقلانية لتساؤلات تاريخية عالقة ،أطلقتها أزمة المشروع القومي العربي، وظواهر انسداد الدولة الوطنية وتعثر وظيفتها. وساهم في العديد من مؤلفاته وأبحاثه في إغناء الجدل المُثار حول تلك الأزمة الضاربة في الحياة العربية ، لاسيما في كتابه " الدولة الحديثة والبحث عن الهوية " الذي حاول من خلاله أن يسبر أغوار المشكلات البنيوية التي تواجه الدولة متعددة الهويات في زمن العولمة ، كما تلمس في كتابه " الثقافة المقهورة والثقافة المنتصرة " البيئة الثقافية الاستبدادية الكابحة لكل محاولات النهوض والتغيير، في الفضاء العربي المحكوم بإرث التسلط والفساد. ولم يدّخر أبو حازم المنغمس بكل حواسه بهموم شعبه ووطنه ، أيَّ جهدٍ و إمكانية لبناء جسور التلاقي و التفاعل مع أصحاب الأفكار والرؤى المستنيرة، من مختلف التيارات والاتجاهات ،متخففاً من إرث الأيديولوجية ،دونما التخلي عن مبادئه ويقينياته التي امتحنها في رحاب تجربته الغنية.
أما أبو حازم الإنسان فيدرك كل من عرفه عن قرب، ما في شخصيته المتماسكة ، من خصال وصفات أخلاقية نبيلة، أكسبته حب واحترام رفاقه القدامى ، وكل من عايش تواضعه وحنوّه الأبوي وعصاميته الجليلة ، ولذلك عكس بمصداقيته وسلوكه ومواقفه ، صورة المكافح الصلب، والمثقف الملتزم، و الإنسان الذي يشبه بلده في عطاءها و مظلوميتها وأحلامها. ولذلك عندما أزفت شرارة الثورة في سوريا، وبينما كان التفاؤل بدنوّ أجل النظام وسقوطه السريع يطغى على كثير من القراءات والتوقعات، كان أبو حازم يرى أن المعركة ستكون أقسى وأشرس واعقد من ذلك ، بحكم معرفته الوثيقة لبنية النظام الأمنية، وحجم التداخلات الإقليمية والدولية في المسألة السورية، ولكنه كان متيقناً من انتصار الشعب السوري في نهاية المطاف، ولذلك انصب نشاطه الثوري الذي كان يمارسه بكل شرف المسؤولية الوطنية والأخلاقية في هذه المرحلة المصيرية ،على حماية أطروحة الثورة من الأجندات والإستقطابات الضارة بوحدة الشعب السوري و انتمائه العروبي ، وهو ما حاول القيام به من خلال دوره في تأسيس التيار العربي الديمقراطي، ومشاركته في صياغة بيانه الأول الذي جاء مؤكداً على جدلية التحرر من الاستبداد ومن الوصاية الإقليمية والدولية، كي لا تحيد الثورة عن أهدافها وكي لا تذهب تضحيات
الشعب السوري هدراً . .
وبينما كان يوميات المآسي والفواجع التي تسبب بها النظام في معركته الأخيرة ضد شعبه، تقضم ما تبقى من قدرة أبو حازم على احتمال كل هذا الخراب والموت الذي عمّ البلد، أُصيبَ بجلطةٍ دماغيةٍ أودت بحياته بعد بضعة أيام، وبموته خسارة فادحة لشعبه ووطنه وأمته، ومناسبة لإحياء مراحل من التاريخ الوطني السوري، والوقوف على دور الفاعلين في صناعته، وتسليط الضوء على رواية جرى تغييبها لأكثر من أربعة عقود، على أمل أن تنتصر سوريا الحرة، كي يطمأن أبو حازم في مثواه الأخير أن تضحياته و تضحيات كل السوريين أثمرت وطناً حراً كريماً يستحق الحياة .

أيمن فهمي أبو هاشم
(150)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي