استراتيجية الثورة لإسقاط النظام

لقد بنى المجتمع الدولي خطابه السياسي الداعي لجنيف، على مقدمة مصطنعة حدثت بفعل فاعل وتخطيط مسبق، وهي عدم إمكانية الحسم العسكري، والكل يعلم أن هذا النظام (وهو نظام وليس دولة) قد أسقطه الشعب، وهو مستمر كجيش احتلال في مربعات معينة بالدعم والحماية والمساعدة العسكرية الخارجية، فالثورة السورية كانت وما تزال قادرة على الإطاحة به، وكل شعب لديه الإرادة يستطيع تغيير نظامه السياسي حتى لو كان يمارس الترهيب على أجهزة الدولة وعلى المجتمع، الا إذا تلقى هذا النظام الإرهابي الدعم المجدي من الخارج وتحول لجيش احتلال إمداده من الخارج وليس من شعبه، و إذا تخاذل الخارج عن واجباته تجاه أي شعب يتعرض للاضطهاد والإبادة والاحتلال، لذلك نعتقد بوجود إرادة خارجية للجم الثورة ومنعها من تحقيق أهدافها، وإجبارها على قبول نصف انتصار في أحسن الأحوال، إذا لم نقل الاستسلام الكامل، وبقاء الشعب في النهاية تحت الهيمنة والتبعية.
لقد بنت الثورة استراتيجيتها على التظاهر واحتلال الساحات، لكن النظام أمعن في القتل والاعتقال، فاضطرت للدفاع المسلح عن نفسها، فشن النظام حرب إبادة وتهجير وتدمير ضد كل المدن والبلدات، مما طور عمليات الحماية باتجاه تشكيل مقاومة منظمة (جيش حر) في مواجهة جيش احتلال، وهكذا تحولت الثورة لحرب جبهات غير متكافئة في العتاد، ومع ذلك بدا النظام عاجزا عن الصمود، فدخلت الشيعية السياسية الفارسية الحرب بدعم وغطاء روسي وغض نظر غربي، وترافق ذلك مع سياسة تقليص الدعم والحصار التي تمارسها الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية على الثورة، ومع سياسية التجويع والإبادة التي يمارسها النظام على المناطق المحررة، خاصة في حمص وريف دمشق ومناطق استراتيجية أخرى، والهدف هو رسم حدود تقسيمية، يعتقد النظام أنها هي ما سيمكنه الاحتفاظ بها بعد فشل جنيف المحتوم، أي الفشل المتوافق عليه بين الروس والأمريكان، فكلهم متفق على عدم إيجاد آلية ملزمة تستطيع تنفيذ أي من الوعود الورقية المطروحة، أو التي طرحت منذ بداية المبادرات العربية والدولية، أي كلهم متفق على انتهاء سوريا إلى دولة مقسمة فاشلة مدمرة عاجزة مرهونة، وهو ما يرفضه الشعب السوري جملة وتفصيلا.
وبالنظر لاحتمال استمرار الصراع لفترة طويلة، واحتمال إطباق الحصار على الثورة لخنقها واجبارها على قبول التقسيم، وجب التفكير في تطوير الاستراتيجية العسكرية للثورة تبعا لهذا الاحتمال، وفقا للمعطيات التالية:
1- الاعتماد المتنامي على الذات والموارد المحلية، وخاصة موارد السلاح والذخيرة واغتنامها، أو تصنيعها.
2- نقل القيادة للداخل وتحصينها من الاختراقات والانتهازيين وعملاء الغرب، وتنقية صفوفها من غير المخلصين للثورة. هذه القيادة عليها أن تستمد شرعيتها من الشعب، وليس من سفراء وأمراء وأجهزة استخبارات خارجية.
3- تطوير صيغ الاعتماد على قادة الرأي العام من أهل الحل والعقد كممثلين عن الشعب وعامة الناس، بالنظر لغياب إمكانية إجراء انتخابات، وعدم إمكانية نشوء حياة سياسية حزبية تؤطر الرأي العام كما في المجتمعات المدنية، بسبب حالة الحرب والحصار،
4- الانتقال من استراتيجية حرب الجبهات لحرب الأنصار والاستنزاف، فاستراتيجية إسقاط النظام يجب أن تعتمد حاليا على خطة استنزاف طويلة ومستمرة، حتى يرضخ داعمو النظام لأهداف الثورة تحت ضغط خسائره البشرية.
5- استهداف نقاط ضعف العدو في كل مكان ونقل المعركة لداخل مناطقه، والتركيز على طرق الإمداد والتنقل، وإجباره على نشر قواته في أوسع مساحة.
6- تركيز الضربات على سلاح الجو لتحييده، وعلى مستودعات الذخيرة والسلاح لاغتنامها.
7- العامل الحاسم في كسب المعركة هو إرادة القتال من طرفنا، وهذا يتطلب أيديولوجيا جهادية عنيدة، وهذا متوفر والحمد لله، والعنصر الأضعف لدينا هو عدم توفر السلاح النوعي، وضعف التنسيق والتخطيط.
8- العنصر الأضعف عند العدو هو العنصر البشري، فالنظام لا ينقصه السلاح ولا الذخيرة، بل المقاتلون، مما يضطره للاستعانة بالمرتزقة الأجانب، وبالتالي نقطة ضعفه هي عدد المقاتلين المحدود لديه، لذلك يجب التركيز على نقطة ضعفه هذه، عبر تسهيل شق المقاتلين المجبرين على القتال مع النظام ونسبتهم كبيرة، ثم اعتماد سياسة إعلامية غايتها ترهيب المقاتلين الأجانب وضرب معنوياتهم وتحريض ذويهم على حكوماتهم التي ترسلهم، أيضا التركيز في المواجهات على إيقاع أكبر عدد من الإصابات في العناصر، وليس في الآليات والدشم، التي تستهلك الذخيرة دون جدوى.
9- استمرار مد الحاضنة الشعبية بعناصر الصمود، ولجم الطابور الخامس الذي يفهم الثورة كتجارة (ربح وخسارة )، وليس ضريبة لا بد منها للحرية والكرامة، والذي يخشى الحرب وتقديم الشهداء أكثر من العبودية والذل والهوان، ويريد وقف الثورة مهما كانت النتيجة السياسية، لأنه يعتبر الثورة عنفا و قتلا وتخريبا للوطن (وهذا هو مفهوم النظام أيضا).
10- الحل السياسي دوما ممكن، وبوابته إقالة الأسد ورموز نظامه من السلطة، وهذا ممكن الحدوث بضغط دولي أو بانقلاب من الداخل، فقط عندما يكون في السلطة من لم تتلطخ يديه بدم المواطنين، ويريد فعلا الوصول لتسوية، ويقوم من طرفه بتنفيذ جنيف1: وهي وقف القتل وفك الحصار وسحب الجيش وإطلاق المعتقلين والسماح بعودة المهجرين، ويمكن اتخاذ إجراءات موازية من قبل الثوار، ثم عقد طاولة التفاوض على مرحلة انتقالية، برعاية وضمانات، أهمها رضى الشعب واطمئنانه.
كما لابد من تطوير الاقتصاد ليشكل دعامة الاعتماد على الذات وإدامة الثورة:
1- إيجاد مناطق آمنة، وهذا يتطلب التركيز على تحييد سلاح الجو على الأقل في مناطق معينة لكي تستوعب أعدادا كبيرة من العائدين.
2- إدارة المناطق المحررة واستغلال كافة الموارد، وإعادة المهجرين وتشغيلهم.
3- تغيير سياسات الدعم من مساعدة اللاجئين المباشرة، إلى تشغيل الاقتصاد في الداخل وإدامته.
4- إقامة سلطة القضاء والاحتكام له، لمنع الفوضى والجريمة وقمع الفساد المستشري في وحدات الدعم. وهو على الغالب سيكون قضاء شرعياً في هذه المرحلة من تفكك الدولة.
5- العناصر الأساسية المتبقية للاقتصاد حاليا هي الموارد الطبيعية والزراعة، وهناك بنية تحتية يمكن ترميمها بشكل جزئي، و مع ذلك يمكن إطلاق ديناميكية الدورة الاقتصادية ونهوض البنى الملحقة الخدمية والتجارية والصناعية بسرعة.. وهي ما نشاهده بمجرد بدء عودة المهجرين، حتى مع بقاء خطر القصف.
6- يجب توقع ثورة اقتصادية تعيد توزيع الثروة بعد الثورة السياسية، التي تعيد توزيع السلطة، والتي ستتفجر بمجرد استعادة الأمان وسقوط النظام.
7- يجب توقع حدوث رغبة عارمة في الاستدانة مترافقة مع تقديم عروض خارجية مغرية، تنتهي برهن البلاد، إذا لم يوضع لها الضوابط الصارمة.
8- يجب وضع خطط إسكان حديثة ومنظمة حتى لا نعيد بناء العشوائيات، خاصة بعد الدمار الهائل في المباني.
9- يمكن توقع حصول نهضة اقتصادية شاملة في حال وجدت سلطة وطنية قادرة وعادلة.
10- الثورة السورية طويلة وستمر بمراحل عديدة، فبعد أن تسقط النظام ستعمل على توحيد البلاد وإصلاح الاقتصاد بشكل جذري، ثم ستحدث ثورة ثقافية تعيد انتاج التراث بشكل يتلاءم مع الحضارة الحديثة، وستغير هذه الثورة وجه المنطقة بإذن الله، لأنها ثورة يجب أن تكمل مسارها، وليست أزمة وعنفا يجب أن يتوقف بأي طريقة.
أخيرا أقول لكل الأصدقاء الذين أساؤوا فهم الثورة السورية: الديمقراطية لا تبنى على إلغاء الثقافة والتراث والهوية بل على تطويرها، والناس لا تأكل الكتب بل تتعلم من تجاربها، ولها الحق في أن تختبر ما تريد من نظم وأشكال في مرحلة الثورة، وأنا على قناعة أن النتيجة الحضارية مضمونة، وأنا أثق بالشعب وبخياراته ومنحاز إليه على ما أراد، على الأقل هكذا أفهم الوطنية والديمقراطية.
والحقيقة الثانية أن الديمقراطية لن تأتي بالحرب على الإسلام، الذي لا يجب توقع اندثاره من الحياة المجتمعية، بل لا بد لها أن تأتي من داخله عبر تطوير آليات عقله وقراءته وإنضاجها، بما استجد من علوم القراءة واللغة، وعلوم الفيزياء والمنطق، وهي لن تحصل من دون سلام واستقرار ورخاء.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية