أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

سيارتان وسياستان

كان أحدهم يقول لي، على سبيل النكتة، إن السيارات تشبه أشكال البشر وسلوكياتهم، فهناك سيارة سمينة وأخرى نحيلة، وسيارة حركتها بطيئة وأخرى رشيقة، وسيارة توحي بالغباء وأخرى بالذكاء، وهكذا. يمكن القول أيضاً أن السيارات تشبه الأنظمة السياسية من حيث أدائها وسلوكها وطرائق حكمها، بل قد تتحول بعض السيارات إلى رموز مكثفة تعبِّر عن أنظمة سياسية بعينها، وهذا ما فعلته سيارتا البيجو الفرنسية والبيك أب في ذاكرتي ومخيلتي.

على العموم، فإن طبيعة أي نظام سياسي تظهر في جميع مستويات الحياة، في الاقتصاد والإدارة والتعليم والإعلام والصحة والصرف الصحي، وهنا نحتاج إلى اكتشاف مميزات وخصائص هذا النظام في كل مستوى من المستويات السابقة. لكن لا شك أن الحياة الاعتيادية المعاشة أكثر تعبيراً عن ماهية أي نظام سياسي بحكم الفجاجة الصارخة التي يتمظهر فيها هذا النظام في التفاصيل اليومية، وكون تجلياته الحياتية المباشرة لا تحتاج إلى تعب وجهد في استكشافها، إذ يدركها الإنسان العادي بإحساسه وغريزته.

على سبيل المثال، فإن النظام السياسي السوري، نظام البنية التسلطية، يعبِّر عن نفسه ومكنوناته ورموزه وأخلاقياته في جميع مجالات الحياة اليومية في سورية، وكان المواطن السوري يتعرف على هذا النظام في كل تفصيل من تفاصيل الحياة، وهذا على النقيض مما يقوله البعض الذين يدّعون أن هناك قلة بسيطة أو "نخبة" محدّدة تعرف بنية النظام وممارساته.

واحدٌ من التفاصيل التي كانت تزعجني وتثير القرف والاشمئزاز في داخلي هو سيارة البيجو الفرنسية، وأعتقد أن الكثير من السوريين يحملون في ذاكرتهم الشعور ذاته تجاه هذه السيارة "الحقيرة". فقد تحوّلت هذه السيارة في ذاكرتي إلى أحد العناوين المميِّزة للنظام السوري، وهي التي لم تغب عن المشهد السوري طوال عقدين من الزمن على الأقل، حتى جاء النظام الوريث بسيارات أخرى كإجراء جديد من بين "زعبراته" العديدة في "التحديث والتطوير"، لكن بعد انطلاق الثورة السورية عادت البيجو الفرنسية إلى مجدها السابق بكثافة وقوة.

لست خبيراً بأنواع السيارات، لكن ربما استقرت هذه السيارة في ذاكرتي كونها كانت حاضرة بكثافة في الحياة العامة، تجدها أينما تلتفت في شوارع المدن والقرى السورية، وأعتقد – إن لم أكن مخطئاً – أن لهذه السيارة نوعان شائعان في سورية، الأولى هي سيارة البيجو 504 العادية التي كانت مخصصة لخدمة الضباط ورجال الأمن، ومنهم من كان يمتلك عدة سيارات منها، يجعلون بعضها في خدمة نسائهم ونقل أولادهم الصغار إلى المدارس، فيما أولادهم الكبار يستقلّونها ذاهبين إلى الجامعة. وما زلت أذكر كيف كان أولاد الضباط والمسؤولين في أيام دراستي الجامعية يأتون بسيارت البيجو ويجوبون في شوارع الجامعة وحولها منتهكين حرماتها، وكيف كانت تصطف هذه السيارات أمام "الكولبات" المخصصة لحراسة منازل الضباط الكبار في دمشق، والتي يقبع فيها عدد من العساكر البائسين المفرزين لخدمتهم تحت عنوان "خدمة العلم". 

أما البيجو الأخرى، بيجو 504 استيشن، فهي الأشد قرفاً، كونها مخصصة لفروع الأمن، وتقوم بمهمات الملاحقة والاعتقال والتشبيح، إذ يستقلّها في الغالب أشخاصٌ تبدو على معظمهم سمات وملامح الإجرام، ولا يتقنون شيئاً سوى الضرب والقتل و"السلبطة" والكلام القذر والاستهتار بالقانون والبشر والحجر، ولطالما كنت أشاهد هذه السيارة في مشهد مألوف، إذ يستقلّها أربعة مسلحين، ربما لم يحصلوا على الشهادة الابتدائية، يجلس اثنان منهما في المقعد الخلفي وهما يحصران بينهما مواطناً سورياً، تملأ الدماء وجهه، ويأخذانه إلى أحد الفروع الأمنية ، وليس من الغريب أن يضعوه أحياناً في "طبو" السيارة.

أما السيارة الثانية التي تركت أثراً في ذاكرتي ومخيلتي فهي سيارة البيك أب بكافة صنوفها، فقد خلقت في داخلي شعوراً بالرعب والاكتئاب في آن معاً، وقد تعرفت عليها جيداً بعد انطلاقة الثورة الليبية وذهابها باتجاه العسكرة، وكان المشهد الشائع فيها آنذاك هو سيارة البيك أب التي تحمل على ظهرها سلاحاً رشاشاً لا أدري ماذا يسميه العسكر، ويقودها عددٌ من الأشخاص المدنيين غير المنضبطين في الغالب الذين يرتدون ملابس مختلفة، وتبدو عليهم ملامح وهيئات لا تبشِّر بالخير.

بعد أشهر على انطلاقة الثورة السورية، ووضوح استغراق النظام السوري في سمتي الغباء والغرور، بما يمنعه من القيام بأي حل سياسي يحقِّق مصالح سورية والسوريين، بدأت أضع يدي على قلبي خوفاً من أن تنتقل هذه الصورة المرعبة والقاتمة لسيارة البيك أب إلى سورية، بخاصة في ظل وجود قوى وشخصيات معارضة غوغائية وفقيرة الرؤية وجاهلة في تعاطيها مع الواقع، والتي كانت تدفع في اتجاه إسقاط التجربة الليبية بكل ملامحها وتفاصيلها وآلياتها على الواقع السوري على الرغم من الاختلاف البيِّن في نواحٍ عديدةٍ بين البلدين. من نافل القول أن النظام السوري هو الدافع والمحرك الأساسي باتجاه عسكرة الثورة بحكم إجرامه الكبير الذي تجاوز جميع الحدود، لكن لا ننكر أيضاً أن هناك معارضين مسؤولين عن الطريقة الفوضوية والغبية التي أديرت بها العسكرة على الأقل، والتي لم تلتزم بالبديهيات الضرورية واللازمة لوضع العسكرة في الحدود والحيزات التي تخدم أهداف الثورة.

بدأت سيارة البيك أب وملحقاتها في أوائل عام 2012 تفرض نفسها بقوة على المشهد السوري وتزيح سائر الرموز والتعبيرات الأخرى المدنية للثورة، والمشكلة الأكبر كانت في تحرك البيك أب من دون عقل سياسي يحدِّد سرعتها ومجال حركتها وأهدافها والمخاطر الكامنة في الاستغراق بروحيتها وبقدراتها والمناخات التي خلقتها على حساب ضمور أو طرد المعالم الإيجابية والحضارية التي أنتجها السوريون في ثورتهم.

سيارة البيجو أحد عناوين الدولة البوليسية، بما يلازمها من قهر واستبداد واستهانة بأرواح وحريات وكرامة السوريين، ولو كانت هذه السيارة تنطق لشهدت على آلاف الجرائم المرتكبة بحق السوريين. أما سيارة البيك أب فهي عنوان للعسكرة غير المنضبطة والمنفلتة من عقالها، وللفوضى وفقدان البوصلة والأمل. لا بدّ من حرق هاتين السيارتين في ذاكرة وواقع السوريين، بل لا بدّ من رمي السياستين القابعتين خلفهما في مزبلة التاريخ بكل رموزهما وتجلياتهما وأدواتهما، كي يكون للسوريين مستقبلٌ خالٍ من الخوف والقهر والاستعباد من جهة، وبعيداً من الفوضى وانعدام الأمان من جهة أخرى.

(120)    هل أعجبتك المقالة (117)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي