أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

أقول للسياسي

أن يكون الشخص معارضا لايعني بالضرورة أن يكون سياسيا، وكذلك الأمر لو كان مثقفا أو أكاديميا مرموقا أو صحفيا أورجل قانون أو مدافعا شرسا عن حقوق الإنسان... كلها عوامل قد تكون مساعدة لكنها لا تكفي.

يتحفنا الكثير من هؤلاء بآرائهم وتحليلاتهم ومواقفهم على مدار الساعة، على الشاشات وفي الصحف وفي المجالس وعلى مواقع التواصل الاجتماعي... لكنك تجد في حديثهم أي شيء إلا السياسة.... قد تجد النضال وقد تجد الوطنية وربما الفصاحة اللغوية، قد تجد الغضب والبطولات والعنتريات والمزاودات، وقد تجد الصراخ والبكاء والنحيب... ولكنك لا تجد السياسة.

تعبت سوريا وتعب أهلها إلى الحد الأقصى، وأصبحنا أمام مخاطر قد تودي بوحدة الكيان وباحتراب طائفي مرعب، وبمأساة لاجئين سوريين لا يعلم إلا الله متى تنتهي.. ومع ذلك لم نحظ حتى الآن بسياسيين بمستوى رجال دولة، يقودون هذه الثورة اليتيمة إلى نهاية مرضية، ويضعون حدا لمأساة هذا الشعب البائس.

حتى الآن يرفض سياسيو المعارضة التعاون والتوافق مع أن خطاباتهم تعج بمثل هذه الكلمات، وحتى الآن ينهشون بعضهم بعضا، وحتى الآن يرتكبون أخطاء قاتلة، ويقدمون لعدوهم ما يشتهي من أسباب النجاة، ويقدمون لشعبهم ما لا يشتهي من أسباب البؤس والشقاء، وحتى الآن يصر كل منهم على موقفه وعلى ملكيته للحقيقة وعلى قناعته بالمسار الأوحد الذي يراه...
هذا يرفض العنف ويريد إسقاط النظام سلميا، وذاك يرفض الحل السياسي ولا يقبل إلا بإسقاط النظام عسكريا... وهذا متحمس للذهاب إلى جنيف وذاك يرفض الذهاب وثالث يشترط رحيل النظام قبل الذهاب.... هذا يطلب دعم الغرب وذاك يرفضه... لكن الكل متفقون أن لايقترب أحدهم من الآخر، وأن لا يقول أحدهم كلمة طيبة بحق الآخر، والكل يرى أن الحق إلى جانبه والباطل إلى جانب الآخر...
أقول للسياسي الذي يرفض الحل السياسي من العتبة وفي جميع الظروف والأحوال، اعذرني فأنت لا تفهم شيئا في السياسة، بل أنت أقرب إلى أمراء الحرب منك إلى السياسيين، لأن الحلول السياسية حاضرة دائما في أي صراع، وهي ميدانك كسياسي، وبها تنتهي كل النزاعات، وما الأعمال العسكرية إلا أدوات هدفها الوصول إلى حلول سياسية في المآل.. نعم يحتاج الحل السياسي إلى ظروف مناسبة وبيئة مناسبة، ويتطلب الكثير من الدراسة والتحضير والحذر والحنكة السياسية.. وقبل هذا وذاك يتطلب ميزانا مواتيا للقوى، لكن ذلك لا يعني بحال من الأحوال رفضه بالمطلق ومن البداية.

أقول للسياسي الذي يرفض أي عمل عسكري، ويريد إسقاط النظام بالعمل السلمي فقط، أعذرني، فانت لا تفهم شيئا في السياسة، ولو كنت كذلك لأدركت أنك أمام نظام مافيوي متوحش لا يتورع عن قتل آخر سوري وتدمير آخر منزل من أجل بقائه، وأن إسقاطه بالعمل السلمي فقط أمر مستحيل.

أقول للسياسي الذي لا يقبل بالحل السياسي قبل رحيل النظام ومحاكمة رموزه، اعذرني فأنت لست مؤهلا للعمل السياسي لأنك لست واقعيا، وكان يفترض أن تَحكُم تفكيرك كسياسي معطيات الواقع، والظروف الموضوعية، وموازين القوى، ومصالح ومستقبل البلد وأهله...، فماذا لو كانت كلفة بقاء النظام مائة ألف قتيل جديد، والقضاء على أمل بقاء البلد موحدا قابلا للحياة؟ فهل تقبل برحيل دون محاسبة، أم أنك ستصر على المحاسبة؟ نعم هو قرار صعب ومؤلم أن تدع مجرمين بهذا المستوى يفلتون من العقاب، لكن ألا تستحق حياة الملايين هذا الثمن، ألا تستحق حماية البلد من التشظي هذا الثمن؟

أقول للسياسي الذي يعتبر التفاوض مع النظام خيانة لدماء الشهداء، أعذرني فأنت لا تفهم شيئا في السياسة، وما أنت إلا مزاود فارغ، فالوفاء لدماء الشهداء لا يقتضي التضحية بما تبقى من أحياء، ولن يضيم أرواحهم أن يبتعد شبح الموت والبؤس عن أهلهم وأحبابهم.

أقول للسياسي الذي يتبنى شعارات الشارع مهما كانت ويعتبرها قبلته، أعذرني فشعبويتك واستجداؤك رضا الشارع ليس سياسة، لأن الشارع الثوري عصبي متقلب المزاج سريع الغضب، سريع التبدل، وأحكامه ليست ثابتة وليست قطعية، وهذا من طبيعته، وهو بأمس الحاجة إلى قادة سياسيين بقلوب حارة وعقول باردة، يوجهونه وينصحونه ويقومون اعوجاجه ويحمونه من الطحش والمبالغة والخطأ، وليس إلى مزاودين يدفعونه إلى التهلكة.

أقول للسياسي الذي يمتهن الكذب والمبالغة وتزوير الحقائق معتقدا أنه يخدم الثورة، اعذرني فأنت قصير النظر ولا تفهم شيئا في السياسة، ولا تفيد سوى عدوك بما تفعل، لأن اكتشاف الحقيقة من قبل من استمعوا إليك سيخلق لديهم ردود فعل معاكسة ضدك وضد معارضتك وضد ثورتك.

أقول للسياسي الذي يسارع إلى الظهور على الشاشات في الأوقات الحرجة، شاهرا سيف الحق والعدل، محملا المعارضة المسلحة مسؤولية جرائم حصلت، اعذرني، فطهرانيتك ليس سياسة، بل هي أقرب إلى الحقارة، إنها استجداء لحسن السلوك من القتلة على حساب الثورة والثوار، وفي مساهمتك إضعاف للثورة وطعن بمصداقيتها وتقديم الفرص المجانية لأعدائها.. ولعلّي أذكرك أن من مهارات العمل السياسي اختيار الكلمات المناسبة والتوقيت المناسب وحساب النتائج والعقبات.. ولن يغفر الناس مثلا لمن ظهر على الشاشات بعيد مجزرة الكيماوي متهما المعارضة بارتكابها في لحظة فارقة وبالغة الحساسية والخطورة في تاريخ الثورة.
أقول للسياسي الذي لا يرى في الثورة إلا مطية للوصول إلى السلطة، اعذرني، فأنت لست سياسيا، أنت انتهازي وضيع، لأن إعلاء مصلحتك الشخصية على حساب مصلحة الثورة والوطن كان سببا أساسيا من أسباب ضعف الثورة وفشل المعارضة، وكلفة سلوكك الوضيع هذا كانت باهظة.

يستحق بلدنا سياسيين حقيقيين، رجال دولة بمعنى الكلمة، يعلون مصلحة الوطن فوق كل مصلحة، يترفعون عن الصغائر، يصوغون رؤاهم استنادا إلى فهم عميق للواقع والظروف والإمكانات المتاحة وموازين القوى، يقودون الثورة ويلمون شمل المعارضة، يعلون شأن العقل والحوار، يقدمون خطابا عقلانيا للخارج والداخل، يستثمرون بحنكة وبراعة كل المسارات الممكنة والفرص المتاحة لإسقاط الاستبداد ونقل البلد إلى فضاء الحرية والديمقراطية... فهل نطلب المستحيل؟

(115)    هل أعجبتك المقالة (115)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي