بدأ الأمر برعشة أصابت دماغي لتنتقل كشحنة كهرباء لتلمس أطرافي وتهزني هزة خفيفة ... لم أعرف التسمية العلمية للأمر .
أخبرني البعض أنه تغير كيميائي يصيب الجسم في فترة معينة أثناء النهار ليعلن الجسد فيه انتهاء فترة الركود وبدء مرحلة جديدة من النشاط .
- ولكن ... أعتقد , قرأت عن الموضوع هي تحدث ليلا ...
- نعم ليلا وأثناء النوم أيضا .
- إذا .....
- إذا أنت لاتنام , هذا هو السبب .
وضع طبيبي سماعته الفضية , نظر إلي وكرسي الجلد يحتضنه , جال متفحصا صلعتي السمراء نزولا إلى أنفي الكبير ليملأ كرشي مساحة عينيه الصغيرتين .
- أنت تحتاج للنوم , فقط .
نظرت حولي , صور جسم الإنسان الحنطية والزهرية تنير جدران عيادته الصفراء ... صور أطفال , صور أطفال سعداء هنا وهناك ,شعورهم الصفراء والبنية مسترسلة ضاحكة تضم رؤوسهم الصغيرة الساذجة .
- إذا دكتور ... اكتب لي وصفة .
- وهل أنت مريض ؟ ... فقط تحتاج للنوم .
- والرعشة ؟
ابتسم كأبطال أفلام الكرتون :
- ... قلت الرعشة هي من قلة النوم ... اذهب للبيت ونم .
أشعلت سيجارتي الوحيدة المتبقية , نظر إلي باستغراب ... تناولها وأطفئها :
- وتدخن ... وتشرب القهوة ... وأربع علب كل يوم ... ولاتنام , وتقرأ كل الجرائد ... وتتابع نشرات الأخبار كلها , لا تأكل بانتظام .. تأكل أي شيء .
- هل اتصل بك .
زم شفتيه , ترك كرسيه واقترب مني :
- نعم ... البارحة اتصل بي ابنك وأخبرني , يارجل مابك , كحول وسجائر وسهر .
- كحول وسجائر وسهر ... اها ... نفس العبارة تتردد .
- نعم نفس العبارة ... اقتربت من الخمسين ... والكل قلق من أسلوب حياتك , انت تنتحر ولكن ببطء .
- والنساء ؟ ألم يخبرك عن النساء ؟
تراجع وهو يضحك , اقترب مني هامسا :
- أنا أعرف عن نسائك أكثر منه .
لم أكن مستقرا دائما في حياتي الأخرى الحياة التي لها علاقة بالذكورة ... كنت مقلب المزاج , كل يوم مع امرأة , مازالت كلمات عمي الأعزب تجتاحني ..
" كن كوردة .. يشتمك الجميع " كان عمي صبري قصيرا بكرش عكازه الخيزران البني اللامع يتبعه أينما ذهب , كنت أراه من بعيد مقبلا من أول الشارع وأبتسم كان يشبه نقطة الماء ولكن بالمقلوب .
ورثت منه الكرش وعن أبي حب النساء ومن أمي رقة القلب .
*********************************
- إذاً ؟ .....
سألني الطبيب وهو ينسحب متناولا المعطف المعلق .
لم أعرف إجابة لـ " إذاً " تلك ... ابتسمت له ملوحا بيدي ليكف عنها .
- تذهب معي للغداء ؟
اجاب وهو يزيل شيئا غير موجود من على المعطف :
- لا اليوم ... مخصص للبيت ... لا عمليات ولا زبائن ...
*********************************
عصام هو الوحيد المقرب لي من أصدقائي , استطاع كتم انفاسه حتى وصل كلية الطب , تزوج ابنة رجل ثري , وأنجب منها أطفالا يشبهون أطفال الدعايات وخصوصا تلك التي لها علاقة بالحليب .
بعضنا تابع في الهندسة واللغة .. و ... وبعضنا تحول ليرث مهنة ابيه .
كنت الوحيد الذي امتهن القلم والورق كحرفة ... والنساء والقهوة كحبر .
كصخرة جوفاء صماء تحركت سيارتي لتخترق زحام الشارع , وتعبر محيط البشر , صافرات الشرطة .. ودخان السيارات والوقوف المتكرر لم يستطع تحويل انتباهي عن رنين هاتفي الجوال :
- أنا على الطريق ... نتكلم عندما أصل .
ابني الوحيد دائم القلق علي وعلى صحتي , زوجته التي تشبه اللعبة تحتضنني وتجلسني على الكرسي المنتفخ الوحيد في المنزل , تمزح وتضحك وتمارس ألعابها الكلامية أمامي ...
- اليوم الغداء هنا .. لن تتحرك .
ترقص حولي كفراشة , وهي تعطيني فنجان القهوة وتقرب مني منفضة السجائر .
نظرت بطرف عيني لأجد معتز وهو يرميها بنظرة مؤنبة مهددة , تلك النظرة التي اعتدت عليها كلما أشعلت سيجارة أو أفرطت في شرب المنبهات , أو عندما يضبطني أقرأ الساعة الرابعة صباحا .
معتز دائم الصمت كأمه , لا يتكلم إلا فيما ندر يستخدم طريقتها في التعبير "وجهه"
- إذاً ؟ ....
قالها وهو يصالب يديه فوق صدره ويرميني بنظرات باردة .
*********************************
كل أحرف الجر وعلامات الاستفهام وأحيانا التعجب ... كانت أخف من تلك " الاذاً " , تربكني أقف أمامها مذعورا متأهبا متوقعا مستنفرا .
إذاً تحمل تلك الشحنة الكهربائية التي تجعلني متوترا وقلقا منها , أبحث دائما عن أجوبة لم يسألنيها أحد لتوقعي رؤيتها , تضعني في خانة الباحث الدائم بين طيات الأحرف والكلمات علّي أجد شيئا يقنعها , يرضي استهلاكها الدائم لأجوبتي .
أتخيلها عبقرية تسخر مني .... تمد لسانها ساخرة من كل معارفي , شامته بتجاربي , تدهس أجوبتي التي لا ترضيها .... باحثة بين تلافيف دماغي عن بقية أجوبة أحجبها عنها .
كنت كلما تذكرتها أنتفض وأحس بتلك القشعريرة التي لا تنتاب الأغبياء سائليها .
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية