هل منكم من رأى حصاناً يبكي؟...أنا رأيت بكاء الخيل، أقسم أنه ما على وجه هذه الأرض أقسى من دموع الخيل، والله لو بكى أطفال العالم دماً بدل الدموع لما عدلت بقساوتها دمعة من مقلة حصان عربي، أتعرفون لماذا؟، لأن الخيل كما نقول نحن الفلاحون ''تحبر'' تحبر ألمها، تكتمه وتعصره بين ضلوعها فلا يخرج أبداً، إذا ضربها صاحبها احتملت، وإذا أجاعها صبرت، وإذا صرخ في وجهها هزت رأسها وسكتت، خيل العرب مثل العرب ''حبورة'' صبورة ولا تنفس عما في صدرها إلا إذا اشتد الخطب.
خيلنا هي مثل فقيرنا وضعيفنا جبّارة، جبروتها في صمتها في صبرها في دموعها المكتومة، الحصان قد يحبك ألف عام دون أن تشعر، لكنه إن ذرف لأجلك دمعة واحدة فاعلم يقيناً أن في الأمر خطباً وأن في قلبه إخلاصاً وحباً، قد يفوق حب الأم.
منذ أكثر من ثمانمائة عام، منذ حرر صلاح الدين القدس لآخر مرة وخيلنا ''تحبر''، حبرت حزنها حبرت ألمها حبرت خيبتها بأصحابها، واعذروني إن قلت ''فرسانها''، منذ ثمانمائة عام وخيلنا لم تعرف النوم، لم تعرف الراحة، لم تعرف كيف تقف ثابتة على قدميها ومن يعرف الخيل يعرف أنها مثل الأطفال إن ضايقها أو حمّسها شيء ''تحوص'' لا تعود تعرف الثبات، منذ ثمانمائة عام وخيلنا '' تحوص'' تجول في مكانها وتحبر حزنها وتصهل بصوت مكتوم طالبة الريح والرماح النواهل.
وقبل ستين عاماً جالت خيلنا لكن جولتها لم تسرها، فعادت ''لتحبر''لأنها لم تبرد نار قلوبها وعادت لتحوص لأن مخزون ثمانمائة عام من القعود لن تحله جولة ساعة، وبعدها بعشرين عاما جاءت الجولة الثانية واستمرت لبضع أيام، لكن بعدها بقيت خيلنا ''تحوص'' بقيت قلقة مضطربة، بقيت تزمجر في غضب وتنفث الدخان من أنوفها وكأنها التنانين، ورغم زمجرة خيلنا إلا أننا هُزمنا، هُزمنا لأننا لم نكن رجالاً بقدر ما هي خيلنا وأفراسنا رجال.
والآن وبعد أربعين عاماً أخرى ''حاصت'' خيلنا حتى تفجرت من تحت أقدامها الأرض، ففلسطين ذهبت، والعراق هتك وتهتك، ولبنان عاد إلى بحر الدم ليغوص فيه ويغرق، وغزة كفنت أبناءها بأوراق الزيتون والتين بعد أن لم يبق في أرض هاشم متر قماش أبيض يستر عوراتنا ويكشف مجدهم....
كل هذا تحملته خيلنا وحبرت، لكن بالامس اقتربت من حصاني وسألته: اتراها تفلح دمشق؟، فانفجر وبكى ورأيت الدموع تسيل من مآقيه أسراباً ووحداناً، فهو مثلي يعلم تماماً أنه ما بقي من حابس لدمعه إلا دمشق فإن ذهبت ذهبنا....
دمشق.....سألتك الله....وتراب بني أمية...ومشهد رأس الحسين....دمشق...سألتك الله والرحم.. وأبناء عمي الذين عاشوا وماتوا فوق أرضك....دمشق سألتك بحق دمائنا ودموعنا...كفكي دمع خيلنا يا دمشق....
[email protected]
www.al-liwa.com
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية