أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

"المراقبون العرب" ضحايا فتيات الليل وفطور الصباح.. صحفية فرنسية زارت بابا عمرو تكشف ضلوع النظام بمقتل زميلها "جاكييه"

تكشف مقالة للكاتب بدر الدين عرودكي "ثلاث نوافذ تطلُّ على حمص...نبلاء فرنسيون يشهدون المأساة السورية" عن حقائق هامة جرت على الساحة السورية منذ شباط/ فبراير من العام الماضي.

ويظهر في المقالة التي تترجم بعضا مما ورد في كتاب الصحفية الفرنسية "إديث بوفييه" التي تطرقت إلى رحلتها برفقة الجيش الحر إلى باباعمرو، ولم تكن وحدها إذ حضرت مع المصور وليام دانييل الفرنسي، والصحافيين البريطاني بول كورنوا والإسباني خافييه إسبينوزا. 

وجميعهم كانوا على موعد مع الصحفي الفرنسي "ريمي أوشليك" في بيروت قبل أن ينطلق هذا الأخير قبلهم بيوم إلى حمص، وإلى بابا عمرو تحديداً، ثم يلحقوا به في اليوم التالي إلى المكان نفسه.

جيل جاكييه الذي قتل في حي موال في حمص تكشف بوفييه حقائق مهمة حول مسؤولية النظام عن مقتله واتهام الثوار.

ويقول "عردوكي" إن كتاب بوفييه "سيصير تحقيقاً بوليسياً حول مقتل جيل جاكيه يوم 11 كانون الثاني 2012 لدى وصوله إلى حمص سيستمر سنة كاملة قبل أن يُنشر. وسيستخدم كل الوسائل المتاحة أمام الصحفيين الغربيين وخبرتهم في مثل هذا المجال. وسيكشف التحقيق عن عناصر لا تمت للتحقيق بصلة بقدر ماتمتُّ إلى لبّ الموضوع: زعْم النظام قتاله جماعات إرهابية مسلحة تعيث في البلاد فساداً. يكتشف أن هذه الجماعات المسلحة التي يحاربها النظام لا تهاجم إلا المظاهرات المناهضة للنظام في حين تعفُّ عن مهاجمة المسيرات الموالية!"
ويضيف أن اوشلك "يكتشف أنه يقابل على الدوام في السجون التي يزورها سجناء جاهزين من كل فئات الجماعات الإرهابية، وأن تلفزيون الدنيا يتواجد على الدوام قبيل الحدث (جرائم الجماعات المسلحة) بدقائق معدودات، مثله في ذلك مثل رجال الإطفاء!".

كما يكتشف "أوشليك" بحسب كتاب "بوفييه" أن "كل الوسائل تبرر الغاية، بما في ذلك مثلاً الحيلولة بين مراقبي الجامعة العربية وبين القيام بوظيفتهم من خلال دسِّ العقاقير في طعامهم الصباحي كي يصابوا بإسهال يحول دونهم والخروج من غرفهم ما داموا لم يستسلموا في العشية لإغراءات الفتيات اللواتي يمتهنَّ الصحافة نهاراً ومحاولة السهر على راحة المراقبين ليلاً!".

وفيما يلي نص المقال كاملا:
"ثلاث نوافذ تطلُّ على حمص
نبلاء فرنسيون يشهدون المأساة السورية
لِـ: بدر الدين عرودكي
تهدي إديث بوفييه كتابها إلى عددٍ مِمَّن تحب. ومن بينهم: "إلى السوريين الذين حملوني على ظهورهم، أو بين أذرعهم، أو الذين بأياديهم الموضوعة على جبيني، أعادوا لي القوة كي أؤمن به وأن أناضل". 

الإيمان بعملها كصحفية بالطبع: 

"لم يضع أحد البندقية على صدغي كي يرغمني على الذهاب إلى سورية. ولم يمنحني أحدٌ حقائب ملأى بالأوراق النقدية. إنه خيارٌ واع، نضج خلال زمن طويل. لا شيء من الجنون فيه، لا شيء من الغرابة".

لم تكن وحدها في هذا الوعي الناضج بما تفعل. وبما أنها لم تكن وحدها في سورية، تنتقل من ضمير المفرد إلى ضمير الجمع: "نعرف أين نضع أقدامنا. لكننا نفعل كما لو أنه لم يكن ثمة شيء، كما لو أننا لا نسمع القنابل التي كانت تدوّي. نمزح، نلعب، كي نتجنب القدر. كان لابد من الذهاب إلى هناك. لأن الصراع قليل التغطية في الصحافة. لأنه يجب الحديث عما يجري فيها. لأن تلك هي مهنتنا. 

"طبيعي أننا نخاف، وأننا على وعي بالمخاطر، لكن الرغبة في الفهم، في رؤية الحرب عن كثب، في أشدِّ مظاهرها رعباً، كانت أقوى."

لم تكن وحدها إذن. حضرت مع المصور وليام دانييل الفرنسي، والصحافيين البريطاني بول كورنوا والإسباني خافييه إسبينوزا. كانوا على موعد مع الصحفي الفرنسي ريمي أوشليك في بيروت قبل أن ينطلق هذا الأخير قبلهم بيوم إلى حمص، وإلى بابا عمرو تحديداً، ثم يلحقوا به في اليوم التالي إلى المكان نفسه. كانوا جميعاً على موعد مع شبابٍ من الجيش الحر يتكفلون بنقلهم ذهاباً وإياباً ومرافقتهم خلال إقامتهم. أمرٌ لابد منه. فالنظام يحول بكل الوسائل دون حضور رجال الصحافة والإعلام إلى سورية إلا بشروطه وتحت رقابته. وليس الأمر كذلك مع الجيش الحر.

ثلاثة أيام مضت على وصولهم كانوا خلالها يزورون المدينة والحيّ على إيقاع القصف المتواصل، وتحت الحصار الذي فرضه جيش النظام على حيِّ بابا عمرو. كان عليهم كي يصلوا إل قلب الحيّ أن يعبروا نفقاً يمتد على ثلاث كيلومترات عرضه متر واحد وارتفاعه 60 ر1 متر. لكن الأمر لم يجر كما كان الجميع يتوقعون. ثلاثة أيام قبل أن يحدث ما كانوا يحسبون حسابه ويتلافون التفكير فيه. اليوم 22 شباط/فبراير. الساعة الثامنة صباحاً. انفجارٌ عاصف يمسّ المركز الإعلامي حيث كانوا جميعاً فينقلب المكان والفضاء غباراً كثيفاً كان يكشف مع تلاشيه عن هول الكارثة: جسدان لامرأة ورجل: ماري كولفان الصحفية الأمريكية، وريمي اوشليك، الصحفي الفرنسي. تراهما إديث وهي محمولة على ذراعي صديقها وليام دانييل لإسعافها بعد اكتشافهما أن الدم كان يفور من ساقها المنتفخة بغزارة. ثوانٍ من التردد قبل خروجها حالت دون سقوطها إلى جانبهما، مثلهما.

في المستشفى الميداني الذي نقلت إليه عرفت الأمر: كسرٌ في ساقها بفعل الانفجار تستحيل معالجته محلياً. لا بد من نقلها إلى بيروت وبأسرع وقت ممكن. هكذا تكتب القصة من جديد. لا قصة الشعب الذي يستميت في الدفاع عن حريته فحسب، بل قصة هؤلاء الشباب الذي يستميتون من أجل تأمين عودة الصحفيين إلى لبنان قبل الانقضاض المنتظر على حي بابا عمرو حيث كانوا. 

وهي تطل يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، خلال عشرة أيام، من نافذة الغرفة التي تنتظر فيها بحيِّ بابا عمرو المُحاصر على الحرب الدائرة ليل نهار، كانت تراقب وتنتظر وتخاف وتأمل مستعيدة أياماً أخرى في بلاد أخرى قريبة، تعيش مآس شبيهة، راوية في الوقت نفسه محاولات الشباب الساهر عليها كي يخرجوها ورفاقها آمنين وبأسرع وقت ممكن، بينما يقومون بتأمين نقل التموين والأدوية والجرحى من الحي وإليه، تزيد قناعتها رسوخاً بجدارة ما تعمله، لا بل بضرورته المطلقة. تلك هي مهنتها وهكذا تكون. 

سيُضَحّي عددٌ من الشباب السوري في الجيش الحرّ بحياته كي ينقذها ورفاقها، وستصل إلى برّ الأمان وستعود إلى باريس لتحتفل وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية بها وحدها دون الاهتمام بالمكان الذي أصيبت فيه، لكنها في كل مرة كانت ترفض الحديث عن نفسها لتقول بصراحة: إنما جئت هنا لأتحدث عن سورية وعن نضال شعبها من أجل الحرية..لتجعل من الثوار الشباب ونضالهم فحوى كلِّ حديث أو حوار.

كأنما جاءت إديث بوفييه، من حيث لا تدري، لكي تبرئ، من دون أن تقصد أيضاً، الثوار من دم جيل جاكييه. فقبل مجيئها ورفاقها بنيّف وشهر، أي في مطلع شهر كانون الثاني/يناير2012، وصل جيل جاكيه، الصحفي الفرنسي، بصحبة زوجته كارولين بوارون، الصحفية أيضاً، وعدد من الصحفيين الآخرين، بصورة رسمية إلى دمشق. أي بموافقة السلطات الرسمية في النظام السوري. أي الأمن السياسي. كان جيل جاكيه يتطلع إلى لقاء بشار الأسد، ورامي مخلوف، بل وكذلك مناف طلاس، مثلما كان يروم زيارة المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة، درعا. ظنَّ، وقد زينت له مَنْ سهّلت له مهمته، أن بوسعه تحقيق ذلك. لكنه يُفاجأ وقد وصل دمشق، أن عليه الذهاب إلى حمص، وأنه لا خيار له في القبول أو الرفض. يُقال له: "إما حمص أو الرحيل!". يُرسَلُ إلى قدره. يُرسل لكي يُحال بينه وبين أن يكتب شيئاً عما كان قد رآه أو سيراه، هو الصحفي المتمرس في مناطق الأزمات والحروب والمآسي. سيلقى حتفه جراء قصف شبه منتظر، شبه مُخطط له في الزمان وفي المكان. سيُتهم الثوار بقتله، على الرغم من أنه قتل في منطقة محمية من جيش النظام. لكن زوجته كانت هنا، شاهدة على مقتله وعلى كيفية مقتله. لكن زملاءه كانوا هنا أيضاً شهوداً على مقتله وعلى كيفية مقتله. ومن حيث لا يحتسب من قتلوه تحوّل الكتاب إلى مهمة تحقيق يقوم بها صحفيون حرفيون يستوون مع المحققين القضائيين إن لم يكونوا أشد بلاء في هذا المجال منهم. ككتاب إديث بوفييه، استحال الموضوع إلى تسليط الأضواء كلها على النظام، وعلى ممارساته، وعلى تكتيكاته، وعلى جرائمه خصوصاً.

هكذا يقودنا الكتاب إلى الإجابة عن تساؤلات كانت تبدو للوهلة الأولى بلا جواب أو تكاد. كيف حدث أن قبل النظام استقبال صحفيين غربيين ينتمون إلى دول غير صديقة فجأة؟ كيف زيّنَ لهم قبل وصولهم أن بوسعهم أن يتحركوا كيف يشاؤون كما يشاؤون ليكتشفوا إبان وصولهم أن ثمة برنامج مُعَدٌّ لهم طوال فترة إقامتهم؟ 

نكتشف شيئاً فشيئاً عناصر الإجابة كما لو كانت عناصر لغز تتكشف أمام أعيننا. كان المراقبون الذين أرسلتهم جامعة الدول العربية بقيادة الفريق الدابي هناك. وكان النظام يريد أن يبرهن على ضلال ما يقال عنه حول رفضه تواجد الصحافة الحرة في سورية. ها هو يبرهن لمن يريد أن يرى أن صحفيين أوربيين، بل ومن دول معادية كفرنسا، يتواجدون في سورية ويعملون بمعرفة وموافقة حكومة النظام. بعض بنود البرنامج المعدِّ سلفاً لجيل جاكيه ورفاقه تكشف الأمر. إذ فجأة يجد نفسه ورفاقه بلا سبب أو مبرر في فندق شيراتون حيث يتواجد المراقبون العرب، بل كما لو أن الأمر محض صدفة، في اللحظة التي يخرج فيها الفريق الدابي من غرفته مغادراً الفندق بطريقة لا يستطيع معها تلافي رؤية الصحافيين الغربيين أو تجاهل وجودهم. في تلك اللحظة، أدى جيل جاكيه ورفاقه من دون أن يدروا ما كان منتظراً من وجودهم في دمشق وعليهم الآن أن يتوجهوا إلى حمص مثلما قُرِّرَ لهم، شاؤوا أم أبوا، ولم يكن جيل جاكيه يشاء ذلك.

سيصير الكتاب تحقيقاً بوليسياً حول مقتل جيل جاكيه يوم 11 كانون الثاني 2012 لدى وصوله إلى حمص سيستمر سنة كاملة قبل أن يُنشر. وسيستخدم كل الوسائل المتاحة أمام الصحفيين الغربيين وخبرتهم في مثل هذا المجال. وسيكشف التحقيق عن عناصر لا تمت للتحقيق بصلة بقدر ماتمتُّ إلى لبّ الموضوع: زعْم النظام قتاله جماعات إرهابية مسلحة تعيث في البلاد فساداً. يكتشف أن هذه الجماعات المسلحة التي يحاربها النظام لا تهاجم إلا المظاهرات المناهضة للنظام في حين تعفُّ عن مهاجمة المسيرات الموالية! يكتشف أنه يقابل على الدوام في السجون التي يزورها سجناء جاهزين من كل فئات الجماعات الإرهابية، وأن تلفزيون الدنيا يتواجد على الدوام قبيل الحدث (جرائم الجماعات المسلحة) بدقائق معدودات، مثله في ذلك مثل رجال الإطفاء! وأن كل الوسائل تبرر الغاية، بما في ذلك مثلاً الحيلولة بين مراقبي الجامعة العربية وبين القيام بوظيفتهم من خلال دسِّ العقاقير في طعامهم الصباحي كي يصابوا بإسهال يحول دونهم والخروج من غرفهم ما داموا لم يستسلموا في العشية لإغراءات الفتيات اللواتي يمتهنَّ الصحافة نهاراً ومحاولة السهر على راحة المراقبين ليلاً! 

كان جيل جاكيه يعرف أنه سيكون حبيس شبكات الأمن التي بناها النظام السوري وهي أشدّ قوة وأكثر صلابة من تلك التي بناها القذافي أو بن علي، وأنه لن يفلت منها. ولا بدّ أنه قد استسلم بقدر من السذاجة إلى شعوره بأن مهنته وجنسيته تحميه من اعتداء مباشر على شخصه. لكنه كان بلا أي شك على وعي كامل بمخاطر مهنة اختارها ولم يكن يفكر حتى في اتخاذ الحيطة من خطر كان يتجسّد أمام عينيه حين قيل له: "إما حمص أو الرحيل!". فكر بالأحرى بما يمكن أن يثري المهمة التي جاء من أجلها والتي كانت تصطدم بكل العثرات التي لم يكن ينتظرها..ولاسيما تلك التي لم يكن قادراً على التغلب عليها، تلك التي أودت بحياته بكل صفاقة..

"ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة". 

يستوون في ذلك جميعاً، نساءً ورجالاً، حين تتماهى أنفسهم في مهنتهم، في ما يعتبرونه رسالتهم. صارت خصاصتهم أن يؤدوا الأمانة كما رأوها، كما شهدوها، كما عاينوها، كما تألموها، كما بكوها، كما يليق بهم أن يحملوها وأن يؤثروها على أنفسهم.

زمان الوصل - صحف
(116)    هل أعجبتك المقالة (106)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي