دقائق الصباح الأولى من كلّ يوم، ما قبل إشراقة الشمس، يتجدّد لقاء من نوع خاص وشيّق بيني وبين صديقي الجديد. أستمع إليه مصغياً إلى ما يُجيد قوله، مراقباً تحركاته، فهو يجيد أيضاً ما يفعله حين يغيب ويُرسل لعنته.
صديقي الجديد (الغراب)، يلتزم بمواعيده الدقيقة، وعادةً لا يحبّ إطالة بقائه كثيراً. لم أخبره أنّ لحظات الصباح الأولى هي ما أنتظره من اليوم حتى الغد، أستمتع بمراقبتها وحيداً حين يكون البشر نائمين، غافلين عن قتل بعضهم البعض. دقائق معدودة، أصبحنا ربّما لا نمتلك سوى القليل منها، من يدري متى يموت وهو نائم؟. تقتلني الحيرة بماذا أفكّر ومن أستحضر.. ومتى كان للعقل فائدة في زمن الحروب؟! من بعيد، أنظر بعين مسافات النُزوح إلى والدي دون أن أتمكّن من رؤيته، لكنّني أرى بوضوح قهر عامين أمضاها بعيداً عن منزله هرباً من الجحيم، جحيم حربٍ عمياء لم تترك لرجلٍ كهلٍ في منتصف عقده السبعين قراراً سوى بالمغادرة، من دون حتّى النظر إلى السماء علّه يعلم نهاية خطواته البطيئة.
على أنغام نعيق صديقي المُتّشح بالسواد، تعود بي الذاكرة إلى غرفتي الصغيرة التي سجّلت جدرانها البيضاء اجتماعات أصدقائي، وأحاديثنا المطوّلة في بدايات الثورة السورية، والتخطيط للمشاركة في التظاهرات، وطريقة إيصال الصورة الحقيقية إلى العالم الخارجي الذي أثبتت الأيام، عدم اكتراثه بمصير شعبٍ أصبح القتل والدّمار ثقافة يومية له. كعيّنة من الشباب السوري الحالم بواقع أفضل، كنّا نسعى إلى إحداث التغيير، ابتداءً من الفرد السوري البسيط ذو الهمّ الأوحد المتمثّل بتوفير متطلبات الحياة الأساسية، وصولاً إلى كسر قاعدة "الرئيس إلى الأبد" المُطبّقة في جمهورية، عانت منذ عقود طويلة شتّى أنواع القهر والظلم والتمييز الطبقي وإذلال المواطن بطريقة احترافية مؤلمة. وكحال النهايات السعيدة، تُعدّ انطلاقة الثورة وما تبعها من تظاهرات واعتصامات وأفكار حضارية انتشرت شيئاً فشيئاً عبر التراب السوري، الفصل الأكثر سعادة بين فصولها المتنوعة لحدّ الآن، قياساً إلى ما آلت إليه الأمور من تعقيدات ومأساة إنسانية هائلة في هذه الأيام، التي يسود فيها الانتظار وأمل الخلاص القريب حال القسم الأكبر من السوريين داخل حدود الوطن، بعد أن أعياهم الموت والدمار والتشرّد والفقر، على النقيض من البعض الآخر الذين لم تُحدث (الثورة) في حياتهم الاعتيادية أيّة انعكاسات سلبية جديرة بالذكر مقارنةً بسابقاتها، الأمر الذي أدى إلى ظهور نوع من الانقسام والاحتقان بين أبناء الوطن الواحد، وصولاً إلى حدّ الشعور بالكراهية وعدم تقبّل الآخر في كثير من الأحيان، حتّى بين من كانوا بالأمس القريب أصدقاء مقرّبين، فرّقتهم تضادّ الأفعال قبل الأقوال.
افتقدتُ منذ أيام غياب "طائر الشؤم" كما يُطلق عليه، افتقدتُ معه البذرة النقيّة للثورة التي امتلأت بشوائب عسيرة على الانحلال في المجتمع السوري وصعبة الطرد منه في الوقت ذاته، افتقدتُ أيضاً زملاء أقبية الظلام والعَفَن تحت الأرض، شركاء النشاط الثوري المدني الذين عانوا الأمرّين، ليدركوا فيما بعد حقيقة الطعن من الخلف، ودرجة النجوميّة التي وصلوا إليها بفضل عشرات التقارير ومئات الصفحات التي أعدّها بعض المعجبين فقط.
صوت طائرة (الميغ) يُعكّر هدوء الصباح، يختفي عدّة ثواني، ثمّ يعود فجأة مع دويّ انفجار شديد، أدركت حينها أنني لم أفارق الحياة، لكنّ لعنة الغارة الجويّة تسبّبت بتحطّم شاشة حاسبي المحمول. هل يُعقل أنّ الغُراب الذي لم يظهر في ذات الصباح هو من أراد اخباري بقوة لعنته حين يغيب، أم أنها مجرّد مصادفة غريبة؟
بعد هذه الحادثة، أنتظر كلّ صباح، سماع نعيق غرابي المميّز، وأنام بلا هموم.
الثورة بعيون صديقي الغراب .. حذيفة فتحي

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية