كيف يعيشون
رويترز تروي أهوال الكيماوي في زملكا وصمودها الأسطوري

نشرت رويترز تقريرا فريدا من نوعه، اعترفت في بدايته أنها لجأت لحجب اسم المراسل الذي كتبه "لأسباب أمنية"، وتناولت فيه أوضاع مدينة زملكا التي تعد أسطورة في الصمود بوجه جيش بشار الأسد وشبيحته، لاسيما بعد شن هجوم كيماوي مأساوي على المدينة ضمن هجوم أوسع استهدف مناطق متعددة في غوطتي دمشق، خلال آب الماضي.
وقال التقرير: نجا محمد الزيبة الذي لا يتجاوز عمره 16 عاما من الهجوم بغاز السارين الذي وقع شرقي دمشق منذ ستة أسابيع لأنه كان خارج منزله يعمل في نوبة ليلية بمستشفى، لكنه فقد عائلته بالكامل في أكثر هجوم بالأسلحة الكيماوية فتكا على مستوى العالم خلال ربع قرن.
قتل والد محمد الذي هرع إلى موقع الهجوم لمساعدة الناجين متأثرا بغاز السارين، وكذلك والدته وإخوته وأخواته الخمسة الذين مكثوا في المنزل.
ويعيش الشاب الآن مع قريب له نجا من الهجوم وسط الشوارع المدمرة والمباني شبه المنهارة في حي زملكا وأحياء أخرى من منطقة الغوطة على مشارف العاصمة.
ربما تبلدت مشاعره بعد سفك الدماء على مدى أكثر من عامين فهو لم يذرف دمعة على هجوم 21 اغسطس/ آب بغاز السارين، الذي أسفر عن سقوط مئات القتلى وكادت الولايات المتحدة وفرنسا أن تشنا غارات جوية على قوات بشار الأسد بسببه.
وقال محمد "نرى أناسا يستشهدون كل يوم فلماذا لا تستشهد أسرتي"؟ وهز شبان يحيطون به رؤوسهم معبرين عن موافقتهم على ما يقول.
بقايا منازل
ويصعب التؤكد بشكل دقيق أين سقطت الصواريخ الكيماوية في منطقة الغوطة التي يسيطر عليها مقاتلو المعارضة، وهي خليط من الضواحي والأراضي الزراعية لأن الدمار الذي خلفه القصف بالأسلحة التقليدية حولها إلى منطقة أنقاض وحطام يكسوها لون رمادي.
في شارع تلو الآخر تجد كتل الخرسانة والحديد المسلح متناثرة في كل مكان. انقسم منزل دمر قبل الهجوم الكيماوي إلى نصفين من أعلاه الى أسفله. وفي أحد الطوابق يوجد مطبخ مكتمل بخزاناته وغسالة الأطباق.
في موقع يقول سكان إن صاروخا محملا بغاز السارين سقط عليه، لا توجد سوى أكوام من الأنقاض على أرض محترقة وبقايا منازل وحدائق تطوقها الشوارع الضيقة التي امتلأت بالجثث في ليلة الهجوم. ويقولون إن السير أو قيادة السيارة كان مستحيلا دون أن تطأ فوق الجثث.
وعلى غرار الأغلبية في الغوطة يتعهد محمد بأن يظل ثابتا حتى رحيل بشار الأسد، وقد هذا الشاب جزءا لا يتجزأ من مجتمع يكافح لإدارة نفسه على الرغم من الاشتباكات مع قوات النظام والحصار الذي تفرضه 13 شهرا وهو ما أدى الى تجويع الجميع.
يذهب محمد كل يوم للعمل في المستشفى الميداني قرب منزله، شاب نحيف تعطي هيئته انطباعا بأنه أصغر من سنه الحقيقي ولا تسمح بنيته الضعيفة بأن يحمل أسلحة، لكنه يشبه الرجال بمظهره الرصين الذي تغيره ابتسامة خاطفة من حين لآخر.
مثله مثل الجميع يتناول محمد وجبات كثيرة بدون خبز فهو سلعة ناقصة الآن، وينهي طعامه القليل بسرعة لأنه لا يمكن وضعه في ثلاجة. لقد انقطع التيار الكهربائي عن المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة منذ عام.
في الليل يقضي وقته على الضوء الخافت للمصابيح التي يعاد شحنها وسط أزيز مولدات الكهرباء وأدخنتها المؤذية. ويستخدم محمد دراجة للتحرك بسبب نقص الوقود وغياب وسائل النقل العام.
في منزله توقف خط الهاتف الأرضي عن العمل منذ فترة طويلة، ولا يستخدم الهاتف المحمول لأن من الصعب أن يلتقط الإشارة. وإذا احتاج للاتصال يستخدم جهازا لاسلكيا للتواصل مع شخص يتولى توصيل الرسائل.
لكل أسرة بندقية
ويوجد معظم مقاتلي المعارضة على مسافة أبعد إلى الغرب على الخط الأمامي قرب الطريق الدائري بدمشق الذي يفصل بين الضواحي الشرقية الخاضعة لسيطرة المعارضة ووسط العاصمة.
ولكن خلال جولة قصيرة بالسيارة في المنطقة أمكن رؤية مقاتلي المعارضة يركب كل اثنين أو ثلاثة دراجة نارية ويعلقون بنادقهم على ظهورهم. يسير آخرون على الأقدام ويتجمعون حول نقاط التفتيش التابعة للمعارضة. تملك كل أسرة تقريبا بندقية تضعها أحيانا بكل وضوح على طاولة أو تعلقها بجوار الباب.
هكذا الحياة في الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة ولا تربطها بوسط دمشق سوى نقطتي تفتيش تابعتين لجيش النظام، عندهما يصادر الجنود الطعام وحليب الأطفال والأدوية وفي أحيان يرفضون دخول حتى من اصطفوا أمام نقطتي التفتيش لساعات.
لا يستطيع السكان خاصة الرجال مغادرة المناطق التي يعيشون فيها والدخول إلى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام دون المجازفة بأن يحتجزوا لمدة غير محددة حين يحاولون عبور نقطة التفتيش.
كيف يعيشون
ويعتمدون في طعامهم على الدواجن والماشية التي يربونها وكذلك الخضروات التي يزرعونها مثل الزيتون والليمون والباذنجان والفلفل الأخضر. في مايو/ أيار أشعل قصف قوات النظام النار في محصول هذا العام من القمح.
ويشكو العدد الصغير من الأطباء من أن مرض الدوسنتاريا ونقص المضادات الحيوية يهددان الأرواح. ويقولون إن الحصار بدأ يسبب سوء تغذية بين النساء الحوامل والأطفال وإن بعض الرضع توفوا بالفعل نتيجة نقص الغذاء.
الشيء الوحيد الموجود بوفرة في الغوطة الشرقية هو الرجال المستعدون للقتال.
وبدعم من التمويل الذي تقدمه جمعيات خيرية تمارس نشاطها سرا وعن طريق جمع التبرعات من العائلات في الخارج، كونت الغوطة شبكة من المنظمات المؤيدة لمقاتلي المعارضة التي تتولى أمر الاحتياجات الطبية والاتصالات والإغاثة الإنسانية والتعليم والصرف الصحي للمجتمع وتضمن شكلا من أشكال تطبيق القانون.
وبعد أن قصفت أغلب المدارس أو أصبحت غير آمنة أعد سكان مراكز "التعليم الثوري" للأطفال الصغار، فيما يذهب المراهقون للعمل.
الاختيار الأكثر شعبية بين الصبية والفتيات دون الرابعة عشرة من العمر هو المجال الطبي حيث هناك حاجة إلى متطوعين ويشعر الآباء والأمهات، بأنهم في أكثر الأماكن أمانا ضمن منطقة حرب مشتعلة.
ويتلقى مساعدو التمريض الشبان تدريبا في المستشفيات الميدانية ليجدوا أفسهم سريعا يوزعون الأدوية ويساعدون في علاج ضحايا المعارك.
وحين استخدم غاز السارين في الغوطة الشرقية حقن عشرات الممرضين المراهقين الناجين بالأتروبين وهو مضاد للسارين.
استيقظ فارس (16 عاما) ويقع منزله على مسافة قصيرة من موقع سقوط الصواريخ الكيماوية مبكرا في الصباح التالي للهجوم دون أن يدري ما حدث أناء الليل.
علم بالأمر في السابعة صباحا حين ركب دراجته قاصدا المتجر الذي يعمل به قبل أن يذهب إلى نوبة عمله في المستشفى الميداني، هرع إلى المستشفى وعالج عشرات الأشخاص.
وقال فارس الذي جلس في فراشه في المستشفى الميداني وقد وضع ضمادة على رأسه وبدا شاحبا بعد أن أصيب في احدى غارات القصف التي تلت الهجوم الكيماوي "صدمت. مازلت أتذكر أشياء لم أكن أتذكرها وقتها".
وأضاف: "على سبيل المثال أبلغوني اليوم بأن أبو ليلى جاري توفي في الهجوم الكيماوي. وبعد أن أبلغوني تذكرت أنني كنت رأيت جثته ذاك الصباح حين وصلت الى المستشفى الميداني".
وبعد أن وصل بقليل وساعد في رفع عشرات الجثث والاعتناء بعشرات الناجين الآخرين الذين كان الزبد يخرج من أفواه الكثير منهم ويعانون من صعوبة شديدة في التنفس، أصيب فارس بأعراض بسيطة نتيجة التعرض لغاز السارين منها الغثيان وتهيج العينين.
لم يرتد أحد الأقنعة الملائمة الواقية من الغاز فهي غير متوفرة في الغوطة. استخدم بعض المسعفين الكمامات الطبية أو الفوط المبللة في الموقع في محاولة لحماية أنفسهم دون جدوى.
ومازال الناجون يعانون من الأرق ونوبات الصداع الشديد وضعف الذاكرة وهي أعراض بدؤوا يشعرون بها بعد تعرضهم لغاز السارين. ويتحدث كل من هم في محيط زملكا عن ليلة من الرعب يشبهونها بنهاية العالم.
وقال محمد الذي كان في نوبة عمل بالمستشفى في تلك الليلة إنه سمع أصوات إطلاق صواريخ غير مألوفة قبل الثانية صباحا بقليل. وبدت كأنها سقطت دون أصوات الانفجار المصاحبة لقذائف الهاون أو قذائف الدبابات.
لم يمض وقت طويل حتى بدأ الشخص الذي يتولى نقل الرسائل عبر جهاز اللاسلكي يقول إن هجوما كيماويا وقع واستدعى المتطوعين والمسعفين إلى الموقع للمساعدة.
عمت الفوضى، وفيما بدأ الناس ينقلون الجثث ويصطحبون الناجين إلى المستشفى الميداني سقط صاروخ آخر يحمل غاز السارين على الحشد مما أسفر عن مقتل 4 مسعفين وكثير من المتطوعين.
ويقول سكان إنهم اعتادوا قصف جيش النظام عندما يتجمعون، وإن هذه ممارسة متعمدة لاستهداف أكبر عدد من المدنيين.
ولا يمكن تحديد عدد الصواريخ الكيماوية التي سقطت، لكن القصف العنيف بالمتفجرات التقليدية استمر طوال الليل ما أسفر عن مقتل مزيد من المتطوعين والناجين من هجوم الغاز، خاصة من فروا إلى طوابق عليا بحثا عن هواء نقي وهربا من الغاز الأكثر ثقلا الذي يهبط إلى مستوى الأرض.
كابوس وجثث
ويصف الناجون ذكرياتهم عما حدث بأنها ضبابية تتقاطع معها لحظات من الوضوح أقرب إلى الكابوس.
خرجت جثث الموتى من الجبانة بعد أن تعرضت لقصف عنيف، وقال أحد الناجين إنه كانت هناك حيوانات نافقة من الماعز والأغنام والقطط وشجرة على الأرض تحتها ما يقرب من 300 طائر.
وألقي أحياء ظن المسعفون خطأ أنهم موتى بين الجثث التي كانت تنتظر الدفن إلى أن أنقذتهم حركة من الرأس او أنين خافت.
وأكد الناس أنهم توخوا حذرا بالغا في ذلك اليوم ليتأكدوا من عدم دفن أي جثة في المقبرة الجماعية قبل أن يؤكد واحد من بضعة أطباء موجودين الوفاة.
دفنوا قتلاهم على مدى 16 ساعة متواصلة، ثم عثروا على مزيد من الجثث داخل المنازل على مدى أيام لم يتوقف خلالها القصف العنيف من قوات بشار.
توفي أفراد أسر بأكملها، مات البعض أثناء نومهم أو خلال جلوسهم معا في غرفة المعيشة. تجمعت أسرة من 5 أفراد في مرحاض كانت تحتمي به من الغاز فيما يبدو.
يتعرف قريب أو صديق أو جار على القتلى. لكن كثيرين كانوا وافدين جددا فهم سوريون نزحوا من أماكن أخرى.
وقال منشق عن الجيش وناشط إعلامي استخدم الاسم المستعار محمد صلاح الدين "عثرنا على أسر بكاملها ميتة في منازلها ولم يعرف أحد في منطقتنا من يكونون".
وكتبت إحدى الأسر اسم بلدتها "جربا" على حائط غرفة المعيشة بمنزلها، وهكذا عرف السكان المنطقة التي جاءت منها.
ويتذكر محمد حقن عشرات الناجين الذين نقلوا إلى المستشفى الميداني بمادة الأتروبين في تلك الليلة، منهم والده الذي لم تنجح الحقنة في إنقاذه.
وحين طلب منه أن يذكر أسماء من قتلوا من عائلته بدأ بأقارب الدرجة الثانية أولا، وواصل سرد أسمائهم بصوت لا يبدو عليه الانفعال.
رويترز - زمان الوصل
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية