أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

العمل السوري المشترك ولعنة التصنيف

ثمة ما يشبه الإجماع لدى السوريين على الاعتقاد بإبداع الإنسان السوري في العمل المنفرد وتراجعه إلى حد الفشل لدى محاولة العمل الجماعي. وربما لا تكون هذه الصفة سورية بامتياز نظراً لتنافس الشعوب العربية في مضمار الكثير من الصفات الهدامة، إلا أن هذا الأمر أكثر ملاحظة لدى الشعب السوري وبخاصة في الآونة الأخيرة. وكأن الأمر برمته يتعلق بمعادلة بسيطة مفادها أنه كلما زاد الابداع والتميز الفردي كلما تراجعت إمكانيات العمل الجماعي وهذا ما ينطبق أشد الانطباق على الإبداع السوري. 

وفي تحليل هذه الظاهرة يعيد البعض الأمر إلى عوامل خارجية بالضرورة مثل أثر المناخ، فالشعوب التي تعيش في المناطق الدافئة المنتجة زراعيا دون تدخل الإنسان بالضرورة يتراجع فيها الأداء الجماعي على عكس المناطق الباردة التي ليس للإنسان فيها ترف الانعزال فهو يحتاج إلى التعاون مع محيطه البشري ليتسنى له الحياة. ولكني أجزم بأن العامل الاجتماعي هو الأساس لجميع محفزات العمل الفردي كند للعمل الجماعي. ويطغى على المشهد الاجتماعي –السياسي السوري عدد غير قليل من آليات التداول السلبي بين الأفراد والمجموعات. وتأتي مصيبة التصنيف التي تجتاح الواقع السوري وبخاصة الثوري منه على رأس تلك الآليات الهدامة والتي تقف حجر عثرة في وجه العمل الجماعي المنظم الموجود والمعمول به كأساس للتفوق في معظم المجتمعات البشرية. 

ويبرز اعتماد الناس في سوريا على التصنيف المناطقي والطبقي كأساس شائع للتقييم ويبدو أن الوقت قد لعب ببراعة في مزج هذا النوع من التصنيف - وغالبه سلبي وساذج – بالانتماء السياسي والفكري. ففلان من جماعة فلان إذن هو شيوعي وفلان قريب لفلان "الإخونجي" إذن هو ينتمي لهذه الجماعة وهكذا دخلت موجات واسعة من الشعب السوري في هذا المسار الخاطىء. 

وفي حين أن انتماء فلان لهذه الجماعة أو تلك هو سؤال حقيقي وليس قيمي بمعنى أن إثباته أو نفيه لا يحتاج الا لبراهين مادية فإن السؤال القيمي المرافق له هو بيت القصيد. فكثير منا غرق في مستنقع التصنيف السلبي ذي اللونين الأبيض والأسود، فمهما كان جواب السؤال عن الانتماء، انتماء الآخر الذي لا يشبهنا فهو يحمل قيمة سلبية من حيث القيمة والتقييم. وأحيانا تشكل تلك السلبية المطلقة الزاوية الأساس في التقييم الذي سيؤدي حتماً إلى عرقلة العمل المشترك وتوحيد الجهود في سبيل الوصول إلى أي هدف وطني حقيقي وجامع. 
وفي حين أن معظمنا لا ينفك عن انتقاد هذه الظاهرة بشدة إلا أننا نمارس هذا الطقس بكثافة ومتعة وكأنه قدر لا ينفصل عن حياتنا الاجتماعية. ونظرا لتراجع الثقافية السياسية الحقيقية في مجتمعنا فقد تنتقل الأمراض الاجتماعية وعوارضها بشكل مباشر وحثيث إلى الحياة السياسية وبخاصة لدى القادمين الجدد إلى هذا البحر المتلاطم الأمواج.

وكعادتنا سنقوم بإرجاع أصل البلاء للاستعمار القديم والجديد وللدكتاتوريات بأشكالها، وسيكون حزب البعث على رأس قائمة الاتهام بهذا النوع من التصنيف السلبي. 

وفي حين أن إرجاع الأمر إلى عامل واحد سيكون أمراً مبالغاً فيه، إلا أن دور حكم الحزب الواحد وأجهزة السلطة القمعية في انتشار هذا المرض دور لا ينكره إلا جاهل أو مماحك. فحزب البعث و شركاؤه وأشباهه قد صنف الناس إلى شرائح فمنهم الصديق ومنهم الحيادي وهذا الأخير إما سلبي أو إيجابي وغيرها من تسميات مقيتة لفرز الناس بين مناصر ومعادي حسب آرائهم السياسية. 

ولم تكن تلك الأوصاف الوحيدة المتداولة والتي يبنى عليها توزيع الحقوق والواجبات بين المواطنين الذين أمسوا منقسمين حسب درجات سلم أجهزة السلطة. ولما تغولت أجهزة الأمن وتكاثرت كالفطر المسموم قامت باختراع تصنيفات جديدة أكثر خبثاً وخسة في آن معاً. فقد يصبح الإنسان مناصراً للتيار السياسي الديني لمجرد أنه ينتمي إلى الشريحة المحافظة الأوسع في المجتمع السوري أو لأنه "ضبط" وهو يصلي في المسجد أو حتى المنزل. فقد يوصف أحد الدبلوماسيين السوريين بأنه متعصب أو مناصر شديد "لأفكار التيار الديني الرجعية" وبأنه على علاقات جيدة مع الطالبانيين لمجرد أن ابنه يدرس في عطلة نهاية الأسبوع في مدرسة سورية تهتم أكثر من غيرها باللغة العربية والقرآن الكريم. وقد يوصف سوري آخر بأنه وطني غيور لأنه لم يكن يمل من مديح الرئيس الشاب الذي سينتصر على الظلاميين الذين يودون خطف الحكم في سوريا من حاكمها الشرعي "الشاب دائماً" ويضهدون أقلياتها ويحرمونها من لونها العلماني الجميل. 

وقد يأخذ مرض التصنيف أشكالاً متعددة تصب جميعها في مستنقع نبذ "اللاشبيه" ووضعه ضمن شريحة أخفض في مستواها الحضاري حسبما يميل المصنف وحسبما يكون نمط تفكيره. ولعل أبرز تلك الأشكال هو الخطاب المترفع الذي تراه يغزو كثيرا من وسائل الإعلام المعارضة والموالية على حد سواء. وفي حين أن لا عتب على الوسائل الموالية التي رضيت على نفسها السقوط في درك تمجيد النظام القاتل وأعوانه فلا عذر للمعارضين عندما تستعمل وسائل إعلامهم خطاباً متعالياً تصنيفياً مدمراً. فقد تجد هذا النوع في الخطاب ذلك الذي يســـتعير مفرداته من الحقبة الشيوعية – على الرغم من تحوله المعلن إلى الليبرالية- فترى كتابات تزخر بالعجيب من المفردات التي لم يعد لها مكان في عالم اليوم. أو ذلك الخطاب الذي يغرق في استعمال ألفاظ مقعرة صعبة حتى يؤكد علو كعبه في مختلف المجالات وأهمها مضمار السياسة مقابل ذلك الشعب المسكين الذي لا تصل مداركه – حسب هذا الخطاب – إلى مرحلة فهم هذه الأفكار التحليلات العظيمة. ومن جانب آخر لا يمكن إغفال استعمال سوريين آخرين مصطلحات وأساليب تؤكد انتماءهم السياسي والديني وإصرار بعض المتحدثين والكتاب على أسلوب قد يفسر أنه إقصائي أو تهميشي لتيارات أخرى أو حتى لتيار واسع من جمهورهم من خلال وصفهم بالعوام أو العامة. 

ولأن سوريا تمر اليوم بأدق مرحلة في تاريخها ولأن المرحلة تحمل من التحديات والشجون ماتنوء عن حمله الجبال، فإن إصرارنا على اجترار عيوبنا الاجتماعية وعلى استعمال التصنيف المقيت في خطابنا لم يكن إلا ليعمق أزمتنا في المعارضة، ولم يكن إلا ليزيد معضلة العمل السوري المشترك إلا تعقيداً فكيف لنا أن نجتث هذا المرض من جذوره. 

لنبدأ بالابتعاد عن استعمال المصطلحات التي تفرق ولا توحد في سبيل هدفنا الأسمى في إسقاط النظام القاتل وفي محاسبة مجرميه، ولنبتعد عن الإغراق في التعبير عن الذات بأدوات الطائفة أو المنطقة أو الايديولوجية ولنستبدلها بأدوات المواطنة والإنسانية. وبدلاً من نقل السياسة إلى المجتمع لنغرف من الأفضل اجتماعياً فنغني به عالمنا السياسي.

(112)    هل أعجبتك المقالة (110)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي