قد يكون موضوع قبول المشاركة في مفاوضات جنيف2 مع النظام السوري أو رفضها, أصعب تحدٍ يواجه المعارضة السورية منذ تأسيسها ككتلة واحدة على شكل مجلس وطني أو ائتلاف وطني, تدَعي وتأخذ على عاتقها تمثيل الشعب السوري.
إن مهمة المعارضة السياسية أن تنحاز إلى مطالب الشعب الذي تمثله على أن تكون رافعة لهذه المطالب سياسياً وثقافياً, لكن عدم وجود ثقل وطني للتيارات والأحزاب والشخصيات التي تشكل تكتلات المعارضة, وقصر قامة بعضها الثورية والوطنية والفكرية,جعلها تكون تابعة ومرددة بشكل ببغائي لصوت الشعب الثائر أكثر من كونها معبرة عنه ورافعة له.
كما أن عليها صناعة التحالفات السياسية, والعمل على اكتساب الأصدقاء وتقليل الأعداء, أو تحييدهم, لذلك فإن الحوار مع روسيا وإيران وهما أهم قوتين مؤثرتين في الأزمة السورية يُفترض أن يشكل أحد مهمات المعارضة السورية الأساسية, لا للتنازل عن المبادئ والأهداف وإنما لشرحها وتوضيحها وإحداث اختراقات مادية أو معنوية في جدران داعمي النظام.
تختلف أطياف المعارضة السورية حول موضوعات أساسية , ففي حين يطالب الائتلاف الوطني بإسقاط النظام ودعم العمل الثوري العسكري, تدعو هيئة التنسيق إلى تغيير النظام وترفض تسليح الثورة(وكأن التسليح كان خياراً ولم يكن اضطراراً), لكن مبادئ جنيف 1 تشكل أرضية مشتركة لكليهما يمكن البناء عليها لتشكيل موقف موحد يعطي قوة ومصداقية لممثلي الشعب السوري.
تمر الثورة السورية بمنعطف خطير بسبب ضعف أداء المعارضة السياسية ,و التقاربات الحاصلة اليوم بين المتصارعين بالأمس من الأطراف الدولية, وهشاشة وضع داعمي الثورة السورية وخفة وزنهم في صناعة القرار الدولي أو التأثير فيه, لذلك على المعارضة أن تسعى لاستنهاض قواها الذاتية , وتحكيم العقل, وتقديم المصلحة الوطنية على كل المصالح الفئوية والحزبية والشخصية,وإعطاء فرصة للسياسة المبنية على الواقع, وأن لا يعلو صوت السلاح على صوت السياسة, مع ضمان بقائه حاضراً في جبهات المواجهة مع النظام و العمل على التنسيق بين مكوناته واعادة توجيه بوصلتها.
لا تنتهي حرب إلا بالسياسة, والعالم كله يطالب بحل سياسي في سورية, فلا تستطيع المعارضة أن تلغي صوت العالم ولا تستمع إلا إلى أصوات متحمسة أو جاهلة أو ناشزة أو مزايدة, وحال الثورة السورية كحال القائل:
وحيد من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
لا يلامس انعقاد جنيف 2 هوىً عند النظام لأن فيه اعترافاً بالمعارضة وشرعيتها وهو الذي مايزال يصمها بالإرهاب, لكنه مضطر تحت ضغوطات حلفائه وقرار مجلس الأمن الأخير, أما أن تدعي المعارضة أنها لا تذهب إلى الحوار لأنها لا تريد منح النظام أي شرعية كان قد فقدها مع اندلاع الثورة, فهو قول أقرب للأمنيات منه إلى الواقع, فالنظام وإن كان فقد شرعيته الشعبية, فلا يزال يتمتع بالشرعية القانونية والدولية, ومن يحتاج للحصول على الشرعية هو المعارضة لا النظام, ويقع عليها بذل الجهد لإفقاد النظام شرعيته الدولية والقانونية.
تتمسك بعض أطراف المعارضة ببند في ميثاق تشكيل الإئتلاف الوطني ينص على عدم التفاوض إلا بعد رحيل النظام بكافة رموزه وأشكاله, فمن الناحية الشكلية يستطيع الإئتلاف تغيير هذا البند بالتصويت عليه, ومن الناحية العملية فهو بند فيه من الوهم أكثر مما فيه من الواقع, فما قيمة المفاوضات وجدواها إذا رحل النظام قبل المفاوضات, ومع من سيتم التفاوض وحول ماذا, إنما تجري المفاوضات لأجل تحقيق مطالب الشعب بالحرية والكرامة والانتقال إلى بناء دولته الديموقراطية , والتي لايمكن أن تقوم إلا برحيل النظام.
تعاني بعض الأصوات التي ترفض بقاء الأسد إلى عام 2014 من غيبوبة توقف الزمن عندها مع بداية الثورة, كان هذا مطلبا مهماً حينها, أما الآن وقد بقي على الموعد أقل من تسعة أشهر فلا يعتبر إلا نوعاً من المزايدة على الشعب دون إدراك لحقيقة الواقع وتوازن القوى ونسيان لآلام السوريين.
إن المطالبة برحيل النظام بكافة رموزه وأشكاله تحمل نفس فساد المطالبة السابقة, ليس لعدم عدالتها , لكن لعدم واقعيتها, فالنظام وإن لم ينتصر فهو لم يخسر المعركة, وداعميه أقوى وأبعد أثراً من داعمي الثوار, والحمل الإنساني والأخلاقي يضغط على الثوار ولا يدخل في اعتبارات النظام أو حساباته, كما أن هذا الطرح يُبقي الطرفين يتصارعان لتحقيق معادلة صفرية تقضي بهزيمة أحدهما وانتصار الآخر, وهي معادلة غير مقبولة وفق معطيات الواقع الراهن, كما أن تماهي النظام مع الدولة ينذر بأن زوال النظام قد يؤدي إلى انهيار الدولة.
إن الذهاب إلى جنيف يحتاج إلى قرار وطني شجاع مبني على رؤية الواقع وتحليله, لا على الأوهام والشعارات وابتزاز مشاعر السوريين, ومبني على ضرورة وقف العمليات العسكرية من الطرفين, وإطلاق سراح المعتقلين, وتأمين عودة المهجرين, ومرجعية مقررات جنيف 1 ,مع وجود ضمانات دولية, ووضع خطة زمنية للتفاوض.
لم يذهب ياسر عرفات إلى أوسلو ترفاً, أو تخلياً عن قضيته, لكنه كان يعرف أن اسرائيل أمر واقع مرٌ لكنه أكثر قوة ودعماً, أن العرب يستعملون القضية الفلسطينية وسيلة للمزايدات السياسية على الخارج وعلى شعوبهم,وللحفاظ على امتيازاتهم وسلطاتهم, , ولم تكن فلسطين حقيقة وفي العمق قضية لهم,لذلك اختار طريق المفاوضات ليحصل على اعتراف دولي, وليحقق اختراقاً يمكِنه من العودة إلى فلسطين, ثم يستمر نضاله في الدفاع عن ثوابت قضية شعبه والاستشهاد دونها.
إن عظمة الثورة السورية , وأسطورية بطولات أبنائها وتضحياتهم, هو ما يمنح الأمل لجميع السوريين و يبعد عنهم هاجس الخوف مما تخفيه المفاوضات,حتى وإن لم تتحقق أهداف الثورة كاملة, فإن استمرار نضال السوريين الذين اقتلعوا الخوف من قلوبهم وكسروا حواجز الرهبة, وعرفوا طريق الحرية, لن يتوقفوا حتى يحرزوها.
الطريق إلى جنيف2 ... عمار ياسر الحمد

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية