على مر تاريخ العرب الحديث لم يسبق للنظام السياسي العربي أن بلغ هذه الحالة الفريدة في تناقضها المأساوي، فارتفاع أسعار النفط جعل قدرات العرب المالية تتزايد أضعافاً مضاعفة، مما يقتضي في الظروف العادية أن يزداد وزنهم السياسي وهيبتهم بين الدول بتزايد ثرواتهم.
لكن الواقع المفجع هو أن الوزن السياسي للعرب في المشهد العالمي يتناقص باستمرار بدلاً من أن يزيد. وسبب ذلك يرجع باعتقادي الى أن قرار العرب ليس في أيديهم، ففي الوقت الذي تقوم فيه بعض الدول العربية بإيداع مليارات الدولارات كسندات خزينة في أميركا ـ وهذه السندات الجديدة قد يتم إلغاؤها في المستقبل كما ألغيت مثيلاتها في الماضي ـ نجد أن مواطني بعض البلدان العربية الأخرى يعانون في الحصول على رغيف الخبز، لدرجة أن الواحد منهم يقتل شقيقه في سبيل ذلك ، كما حصل مؤخراً!
خلال الربع الأخير من القرن الماضي قرأ قادة البلدان الأوروبية المستقبل قراءة عقلية صارمة، فتبين لهم أن بلدانهم لن تستطيع الصمود في وجه التحولات العالمية المتعاظمة ما لم تتحد القارة برمتها في كيان سياسي واحد، وأمام مصلحتهم المشتركة، قرروا أن يتصالحوا مع ماضيهم ، فتمكنوا على اختلاف بلدانهم ولغاتهم وأديانهم من اجتياز أنهار الدماء التي سفكوها ليقيموا الاتحاد الأوروبي الذي يملك الآن العملة الأقوى في العالم!
ترى لماذا يحول زعماؤنا القوة إلى ضعف في الوقت الذي يحول فيه زعماء الأمم الحية الضعف إلى قوة؟
هذا السؤال فرض نفسه عليّ، لمناسبة انعقاد قمة دمشق، وأنا أفكر بشأن جامعة الدول العربية، التي تسمى مجازاً بيت العرب.
أعترف أنه لم يسبق لي أن علقت آمالاً كبرى على الجامعة العربية وقممها، لأنني مثل معظم أبناء جيلي كنت أعتقد أن الجامعة العربية أقيمت كبديل عن الوحدة العربية، لأن الصحافة العربية كانت تصف المشاورات التي سبقت تأسيس الجامعة بأنها مباحثات لإقامة الوحدة. ولهذا كنت أنظر إلى جامعة الدول العربية على إنها مؤسسة تمثل الحكومات العربية، ولا تلبي الحد الأدنى من مطالب الشعب العربي على اختلاف بلدانه. وهذا الرأي له أنصاره حتى بين العاملين في جامعة الدول العربية، فالباحث الدكتور مجدي حماد ، الذي عمل خمسة عشر عاماً في الجامعة العربية وألف كتاباً عنها صدرت طبعته الثانية مؤخراً ضمن سلسلة عالم المعرفة بالكويت، يعتقد أن جامعة الدول العربية عندما أسست عام 1945 «كانت تعبر، في آن عن أوضاع قائمة من ناحية، وعن إرادة أو عن أمل في تغيير هذه الأوضاع من ناحية أخرى».
وإذا كنا لا نريد الوقوع في فخ المجاملات فلابد لنا أن نعترف أن هذا الوصف الدقيق يعبر عن واقع حال الجامعة الآن.
ثمة من يعتقد أن ميثاق الجامعة كان ولايزال عقبة أمام العمل العربي المشترك، لأن الجامعة لا تملك سلطة فوق سلطة الدول الأعضاء فيها. لكن هذه المشكلة تأتي تجسيداً لمشكلة جوهرية أهم هي غياب الإرادة السياسية لدى الزعماء العرب.
في عام 1950 وقع الزعماء العرب معاهدة الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي، لكن غياب الإرادة السياسية لدى معظمهم حول هذه المعاهدة الهامة إلى حبر على ورق.
وفي عام 1957 تم توقيع اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية فكان مصيرها مثل معاهدة الدفاع المشترك.
وفي عام 1964 تقرر إحداث مجلس الوحدة الاقتصادية وإنشاء السوق العربية المشتركة لكن أثر القرار غاب بغياب الإرادة السياسية.
بعض وسائل الإعلام الناطقة بالعربية التي تصف شهداءنا بأنهم قتلى، تلوم سورية لعدم ممارسة الضغط على حلفائها في لبنان، فماذا عن حلفاء أمريكا وإسرائيل؟ هل مصالحهم مقدسة لأنها تشكل امتداداً لمصالح الامبراطور ـ الإله كاليغولا الجديد؟
الجيد في هذا الوضع المأساوي هو أنه يكشف الغطاء عن الجميع، فقد بات واضحاً كل الوضوح أنه لم يعد لأمريكا أصدقاء في المنطقة، لأن الصديق غالباً ما يتميز عن صديقه في المواقف والعواطف والأفكار ، ولم يعد عرب أمريكا يجرؤون على الاختلاف!
أي عار أكبر من أن يقدم العربي التنازلات لأعداء الأمس ذوي الأيدي الملطخة بالدماء، بينما يرفض فتح الحوار مع أخوته بسبب كلمة قيلت هنا أو هناك ، كما لو أن الكبرياء الشخصي لهذا الحاكم أو ذاك أهم من مصلحة الأمة!
أي عار أكبر من أن يرتبط رغيف مواطن عربي بحقول ما وراء البحار وإرادة من يقبعون وراء البحار ، بينما تبقى أراض عربية خصبة مجاورة دون زراعة ودون استثمار!
قبل أيام قال عضو مجلس العموم البريطاني لوكالة أسيوشيتد بريس إنترناشيونال: «لا اعتقد أن قادة الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة سيقاطعون قمة دمشق، استجابة لضغوط الإدارة الأمريكية. لأنهم إن فعلوا ذلك، سيجدون صعوبة في وصف أنفسهم بالزعماء العرب، لأن دمشق هي آخر قلعة للكرامة العربية. ووجود هؤلاء فيها سيفيدهم ويجعلهم يكتشفون، من جديد، شرف الأمة الضائع».
وإنه ليحز في النفس ان نجد ان بعض العرب لا يريدون اكتشاف شرف الأمة الضائع! وانه ليحز في النفس أكثر أن يسمع المرء أعداء أمته الشامتين وهم يعربون عن فرحتهم لأن العرب الذين لم يكونوا يتفقون خلال اجتماعاتهم في الماضي، باتوا الآن غير قادرين على الاجتماع!
-العرب وبيتهم الى أين؟ ... حسن م. يوسف
تشرين السورية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية