أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

جماعة "ليس الآن"

كتبت في بداية أكتوبر 2011 دراسة نقدية مطولة للمعارضة السياسية السورية، وقمت بإرسالها لمعظم أطراف وشخصيات المعارضة. أعتقد أن الدراسة لم تقرأ إلا من جانب عدد ضئيل، إذ لم تصلني ملاحظة واحدة على ما هو مكتوب. لا مشكلة في ذلك بالطبع، لكن الغريب أن كل من تحدث معي حولها فيما بعد اعترض على مبدأ النقد أساساً، وأشعرني بخوفه منه، قائلاً بطريقة أو أخرى "ليس الآن". 

هذا الرفض للنقد، الضمني أو الصريح، تحت مقولة "ليس الآن"، كان وما يزال شائعاً بقوة، فقد أصبح المزاج العام يردِّد هذه المقولة بشكل أو آخر. فإذا انتقد المرء موقفاً أو سلوكاً ما يخرج عليه ألف معترض يقولون: "ليس الآن، المطلوب الآن حشد الصفوف لإسقاط النظام". لكن بالمقابل إذا سكت المرء فمن المتوقع أيضاً أن يواجه بألف معترض يقولون: "أنتم بصمتكم مشاركون في كل شيء، ولولا صمتكم لما حدث ما حدث".

ينبغي الإشارة إلى أن جماعة "ليس الآن" هي جماعة واسعة لا تقتصر على جهة محدّدة، بل هي عابرة لجميع الجهات والمزاج العام برمته. وهي باختصار جماعة رافضة للنقد، وتعتبره معطِّلاً للثورة والمعارضة عن بلوغ أهدافها. إذ كثيراً ما سمعنا من يقول "إن اللحظة الحالية غير مناسبة للنقد، وأنه ينبغي التركيز على الهدف الأساسي والانتهاء من مشكلتنا الكبرى". هذا صحيح من جانب أنه ينبغي ألا نضيع البوصلة في أي لحظة، لكن ينبغي الانتباه أيضاً أنه ليس هناك مركبة بإمكانها السير من دون أن ترمي خارجها كل ما يعيق حركتها السوية ويشوِّهها. فالثورة مثلاً، وسائر الأعمال التي يقوم بها البشر، عملية مركبة من البناء والهدم معاً، والنقد هو أحد الأدوات الأساسية لهذه العملية. 

جميع القوى المعارضة غير مستعدة لحديث عميق وجدي ومسؤول حول مختلف القضايا المطروحة على السوريين، بل إنها كانت، وما تزال، مليئة بالشحن والتشنج إلى درجة تمنعها من الاستماع والتفكير وفتح حوارات حقيقية حول أي نقد يطالها، ولا تتساءل عن أخطائها، فهي لا تخطئ على ما يبدو، وليست بحاجة لمراجعة خطابها وأدائها وسلوكها وآليات عملها وتقويم دور بعض الأفراد فيها. الواضح أن هذا الرفض للنقد هو رفض جوهري، وما حجة التوقيت إلا بوابة لإبعاد النقد عن الذات، وهذا يظهر مثلاً عندما تفرح أي جهة في نقد الجهات الأخرى وفي عدم إبداء أي اعتراض على النقد إلا عندما يقترب منها أو يلامسها فحسب.

كان من الضروري أن تنظر قوى المعارضة لنفسها بوصفها قوى مؤقتة سيعاد تشكيلها وصوغها في ضوء إنجازات الثورة وتطورات الواقع السوري، فسورية مقبلة بالضرورة على مرحلة يعاد فيها بناء القوى السياسية ورسم اصطفافات سياسية جديدة. ولا شك أن توافر مثل هذه القناعة يشير إلى ميزتين إيجابيتين أساسيتين هما القراءة الصحيحة للواقع والتاريخ أولاً، والتواضع ثانياً، وهما الميزتان الضروريتان للإيمان بضرورة النقد والتعاطي الإيجابي معه. 

هناك من يسعى دائماً للتخلص من عناء التفكير بأي نقد من خلال تصنيف الناقد في طرف معارض آخر، وهناك من يواجه النقد بالردح، أي بالتوجه نحو شخص الناقد، وهي طريقة شهيرة تخلصه من عبء الرد على النقد الموجه بطريقة مسؤولة، وتسمح له بتفريغ النقد من مضمونه. الحالات التي تتعامل مع النقد بجدية، من دون النظر لصاحب النقد ونواياه، هي حالات نادرة. 

هناك من يحملون منطقاً انتقائياً وتلفيقياً في الحياة والسياسة على حد سواء. يقول بعضهم لك مستهجناً: لماذا تنتقد "القوى الوطنية الديمقراطية" ولا تنتقد "الإسلاميين" الذين يسيطرون اليوم على الأرض، وآخرون يقولون: كيف تنتقد الإسلاميين وهم الذين يدافعون اليوم ويقاتلون النظام ويقدمون التضحيات، وبعضهم الآخر يستهجن نقدك ويضعه في خانة تقديم الخدمات للنظام. المهم أن الجميع يقول لك بطريقة أو أخرى ليس عليك أن تنتقدني الآن، اذهب وانتقد الآخرين.

الأغلبية تتعامل بشكل عدائي مع النقد. إما أن تكون معنا أو ضدنا. إذ يجري التعامل وفق منطق "الكل أو لا شيء"، فعندما يقوم الناقد بنقد جهة معارضة ما بخصوص موقف معين أو سبب محدّد، لا تتعامل هذه الجهة وأفرادها مع هذا النقد بوصفه نقداً خاصاً بذلك الموقف أو السبب، فهم يفهمون أي نقد على أنه نقد لجميع حمولاتهم وأفكارهم ومواقفهم، مع أن الحال قد لا تكون كذلك.

الارتكاسة المعتادة لانتقاد إحدى جهات المعارضة، تتمظهر في انطلاق "شبيحة" هذه الجهة وإطلاق سهامها في كل اتجاه كمن ضربها على رأسها، من دون أي تفكير بالنقد الموجه، أو وضع احتمال الاستفادة إيجابياً منه، حتى لو كان للناقد غايات شخصية، فالحكيم هو من يتعامل إيجابياً مع النقد حتى لو كان صادراً عن نتنياهو نفسه. لكل جهة من جهات المعارضة "شبيحتها" الخاصة، فجميع القوى لا تبني أعضاء أحراراً على ما يبدو، إنما تنتج مريدين ومدافعين وتوابع، والغريب أن هؤلاء الأعضاء لا يرون أخطاء تنظيماتهم إلا عندما يغادرونها. 

والأنكى أن "شبيحة" أي جهة معارضة تتحرك ضد الناقدين كالجيش الكوري تماماً، حيث الجميع يملكون الطول والمقاس ذاته ويتبعون أنماطاً موحدة في الحركة والخطاب، بما يوحي أن القوى السياسية المعارضة لدينا تشبه معامل الزجاج التي تنتج "كاسات" متطابقة لا تختلف الواحدة منها عن الأخريات، ومعنى هذا أننا في هذه القوى إزاء "أعضاء معلَّبين" أو بالأحرى "مسوخ بشرية"، أي كائنات حية منزوعة العقل والقلب، وبلا ملامح فردية، وربما يكون العضو الوحيد الفاعل هو اللسان الذي يردِّد ما تقوله القيادات. 

غالباً ما يكون الطرف الأضعف بين القوى السياسية هو الأكثر حساسية وتشنجاً تجاه النقد، إذ كثيراً ما تدفع الهامشية المزمنة أصحابها ليكونوا عصابيين من حيث يدرون أو لا يدرون. إحساس المظلومية قاتل لأصحابه الذين يكون هاجسهم عادة هو السعي للاعتراف بموجوديتهم، وهذا يدفعهم ليكونوا عدائيين بشكل مفرط. 

لا يحتاج النقد إلى وقت مناسب، كل الأوقات مناسبة للنقد. عندما لا تعالج الأخطاء في وقتها تتراكم بالضرورة، وتأخذ طابع التورم السرطاني، حتى نصبح أمام جبل من العيوب والمشاكل التي تمنعنا من القيام بأي عمل منتج، وتجعلنا كسيحين أمام الواقع المعقد ومتطلباته. تنسى جماعة "ليس الآن" أن النظام السوري كان يستخدم حجة التوقيت دائماً في وجه أي مطالب بالإصلاح أو التغيير، ولطالما كانت أبواقه تردِّد دائماً باستهجان "لماذا الآن؟".

لا يحتاج النقد أيضاً إلى توصيفات المدرسة الشيوعية أو البعثية حتى نقبل به، كوصفة "النقد البناء" وغيره، فحق النقد مكفول للجميع تحت بند حرية الرأي والتعبير. لكن كي يكون للنقد وزن ودور ينبغي أن تسنده المعرفة والأخلاق، وهذان رهن أولاً بصاحب النقد، ومعاييرهما ذاتية مهما حاولنا وضع أصول وقواعد للنقد، أي لا أحد منا يستطيع أن يضع معايير للمعرفة أو الأخلاق ويطلب من الجميع الالتزام بها، اللهم إلا في القضايا الواضحة والصريحة، كأن ينقل المرء من دون أمانة أو توثيق دقيق لأمر ما كي يتسنى له النقد، أو استنطاق النص المكتوب أو الكلام المسموع على نحو قسري ومفتعل، أو أن يكون صاحب النقد "ذاتياً" إلى درجة فاضحة مثيرة للاشمئزاز، وهذه تظهر جلية عندما ينطلق من أوهامه وأمراضه في مقاربة الواقع أو مادة النقد المكتوبة أو المسموعة.

هناك من ينظر للنقد بوصفه آلية سلبية في تناول الأمور، ويطالب بنسيان النقد لمصلحة البحث عن الحلول، ولا يخلو اعتراضه من الكف عن النقد والمطالبة بالبدائل. باعتقادي إن النقد هو آلية إيجابية ثمينة لأنه ينطلق من الواقع، أي من العياني والملموس والموجود، وهو يتضمن في ثناياه، بشكل أو آخر، حلولاً مقترحة لا تحتاج إلى الكثير من الجهد لاكتشافها واستخلاصها.

من كتاب "زمان الوصل"
(107)    هل أعجبتك المقالة (112)

حماة الديار

2013-10-01

هدا هو الكلام الصحيح يسلم تمّك.


د. محمد غريب

2013-10-01

النقد بالتأكيد ضرورة للثورة السوري والثوار جميعاً، إذ أننا وبعد عقود على السكوت المطبق والهتاف الجماعي وانعدام الحوار، {الذي كرسه النظام بالقوة، إذ كنا ذوي "رأي واحد" و"حزب واحد" أو "جبهة أحزاب واحدة"، حتى مع "الحياد الإيجابي"}، بعد هذا كله لن نستطيع أن نصل إلى حلول مثالية بدون حوار ونقاش ونقد، هذا أمر أكيد خصوصاً إذا كان النقد يتضمن ماذكرته في آخر المقال فليس لأحد الحق في رفضه وإلا فـ"ليعتزل مجلسنا" وينطوي على ذاته، إذا أراد.___ لكن مانريد التأكيد عليه ألا يُساء استخدام النقد من قبل العدو فنحن في مواجهة وليس الأمر كوقت السلم، فيجب التأكيد على مراعاة ماورد ذكره في آخر المقال إضافة إلى اختيار السياق المناسب والتأكيد في الوقت ذاته على الثوابت المتفق عليها كإحدى الوسائل التي تنمع إساءة استعمال النقد. فما زال أمامنا ألف خطوة ومازلنا لم نقطع الخطوة الأولى وهي الخطوة التي تلي إسقاط النظام، ندعو الله أن يكون سريعاً..


نادر جبلي

2013-10-01

صحيح ياصديقي، فثقافة النقد ليست من ممتلكاتنا لا كمعارضة ولا كأفراد حتى، في الوقت الذي لا تستقيم الأمور فيه بدون نقد، لأنه الموجه والمصحح والدليل، وبدونه فقدان البوصلة والطريق.. مناعتنا تجاه النقد مرض خبيث، لكنني أراه نتيجة لأمراض أساسية أولية، هي الخواء الفكري والثقافي والمعرفي، والأخلاقي غالبا... هذا الخواء يقود إلى سلسلة من الأخطاء القاتلة والتي يجب أن تبقى طي الكتمان، لذلك يكون النقد كاشفا وفاضحا، ولذلك يجب أن يبقى بعيدا..


التعليقات (3)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي