أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

من ذاكرة معتقل ... عبد عرابي


الشمس مشرقة في الخارج 
لقد أغلقوا النافذة بلوح من التوتياء

الظلام يشتد ونحن ههنا قاعدون نرقب خيوط الفجر القادمة من خلال شقوق النافذة الخشبية المثبتة قرب السقف العفن .
لا أدري لمَ تأخرت اليوم ، أو ربما لم تتأخر ولكننا ظننا ذلك. إننا لا نعرف زائراً إلا هذه الخيوط، نعرف من خلالها أنّ يوماً آخر سيتلاشى في المجهول.
لا أدري لماذا عندما حان دور وقوفي أمامها طال غيابها؟! نسيت أن أقول أننا اتفقنا منذ دخولنا إلى هنا أنّ واحداً سيجلس أمام هذه الخيوط يومياً، ولقد كنت الشخص الثالث، وقد ظننت أننّي صاحب حظ سعيد عندما أكون ثالثاً من بين عشرة مزدحمين في هذه الحفرة، عفواً أقصد الغرفة الصغيرة التي يملأ نتنها أنوفنا، يالها من إنسانية، كنا نقول إنّ هذه الشقوق تجهد نفسها في إخراج ما تستطيع من هذه الروائح، ولكن ماذا نفعل إذا كان حتماً علينا أن تكون هذه المزبلة - أقصد الغرفة- بالنسبة لنا منامة ومطبخاً ومرحاضاً وكل شيء نعم كل شيء.
أعتقد أنّ هذه الغرفة قبل أن نحشر فيها كانت مستودع بقايا من يموت في غيرها فذلك الحذاء الذي يتنافر جزأه تنافراً عجيباً في كلّ شيء في الشكل واللون العمر إلا أنّهما يلبسان في القدم اليسرى قد يدل على ذلك، بالإضافة إلى المعطف العسكري النتن الذي صنعنا منه ستاراً للمكان الذي نقضي فيه حاجتنا البشرية.
تحرك لساني ببضع كلمات من غير أن أشعر : ربما اعتقلوها أيضاً ؟
صاح سعيد  من هي التي اعتقلوها ؟
قلت ساخراً : الشمس ، ربما أدرك أحد المخبرين بطرقته الخاصة أنّها تتسلل إلينا عبر شقوق النافذة فكتب فيها تقريراً فاعتقلوها .
لم يبتسم أحد وظلّوا منكفئين يشخصون بأبصارهم إلى النافذة قطع الصمت والشرود صوت قفل الباب الذي فتح وبرز منه رأس آصف : انهض يا بغل. 
 قالها وهو ينظر إلى يحيى الذي قام يشد بعضه بعضاً، ومشى أمامه ببطء شديد.
لقد كثر طلب هذا الفتى الوسيم في الآونة الأخيرة، فهو آخر ضيف وفد إلينا من خارج الفرع، لا أحد يدري لمَ؟ لم يقل هو شيئاً، ولم يسأله أحد، ربّما لأننا نعرف تحية الضيف الجديد في الأيام الأولى في فرع الأمن العسكري، كلّ ما نعرفه أنّه وحيد والديه، وأنّه اعتقل عندما كان يريد الدخول إلى حي الوعر مع والديه ليطمئنوا على حال أخته وأولادها بعد وفاة زوجها برصاصة غادرة من قناص خبيث من الشبيحة الذين يعتلون مبنى بنك الدم.  
كنا نرى آثار مزاج أسعد الجلاد على جسده الغض كلّما عاد. لم يشغلنا أمر يحيى  عن التفكير في خيوط الشمس التي تأخرت كثيراً.
لم نعرف كم لبث يحيى، ولكننا لم نشعر إلا وقد فُتح الباب وتهاوى يحيى فوق رؤوسنا - بدمائه التي توزّعت على سائر جسده بدءاً من وجهه إلى قدميه- قائلاً بعد أن اطمأن إلى إغلاق الباب: الشمس مشرقة في الخارج، لقد أغلقوا النافذة بلوح من التوتياء.           

(102)    هل أعجبتك المقالة (111)
التعليقات (0)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي