أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

المعارضة السورية.. المسار الواحد واللون الواحد

جدل حامي الوطيس، عالي النبرة، عمره من عمر الثورة، يعج بعبارات التشكيك والتخوين، يدور بين أقطاب المعارضة السياسية حول مسائل عديدة فرضها الصراع، وعلى رأسها المسالة الخلافية الأبرز، مسألة سلمية الثورة وعسكرتها، رغم أن الخلاف عليها لا يقدم ولا يؤخر.

وكعادتنا في المعارضة، ولأسباب تاريخية موضوعية طبعا، ينظر كل منا إلى المشهد السوري من زاويته الضيقة، فلا يرى إلا جزءا صغيرا منه، ويراه باللون الذي يريد بحكم النظارات الإيديولوجية أو المصلحية التي يضعها على عينيه، ويدافع بتطرف عن رؤيته المبتسرة تلك وكأن الحقيقة ملك يمينه، فلا هو يريد تكبير زاوية الرؤية، ولا هو يريد نزع النظارات، وغالبا هو غير قادر، هذا في الوقت الذي ننظر فيه إلى مشهد مركب ومعقد ومتداخل إلى أبعد الحدود، ولا تمكن رؤيته إلا من زوايا عديدة، وبطرق عديدة، ومن عقول قادرة ومفتوحة لا تضللها نظارات ملونة. 

لا تكمن المشكلة حسب رأيي في أن هناك أشخاصا مع السلمية وضد العنف والعسكرة، وآخرون في الطرف المقابل، ولا في أن هناك من هو مع التدخل الخارجي ومن هو ضده، ولا في أن هناك من يريد محاورة النظام ومن يشترط رحيله بداية...فاختلاف وجهات النظر شيء طبيعي وطيب، لكن المشكلة تكمن في أن كل طرف يعتبر أن المسار الذي يراه هو المسار الصحيح والوحيد والأمثل الذي ينقذ البلاد والعباد ويؤدي إلى التغيير المنشود، بينما مسار الآخرين خاطيء ويقود إلى الخراب. 

لكن تلك الرؤوس الحامية التي تدافع بشراسة عن مواقفها، ولا تتردد في تكفير المختلفين عنها، تقف مرتبكة أمام سؤال أساسي لا تطرحه على نفسها ولا ترغب في سماعه هو: كيف يمكن ذلك؟ أو كيف يمكن لمساركم أن يثمر حلا؟

نقول لأصدقائنا في هيئة التنسيق مثلا (وأقول مثلا لأنني لا أستثني أحدا) إن ما تقولونه عن السلمية والحل السياسي ونبذ العنف هو "جواهر"، ولكن كيف يمكن ذلك؟ وكيف يمكن إقناع نظام بهذه المواصفات بعملية تفاوض ستؤدي إلى رحيله؟ فتأتيك أجوبة مريخية لا تمت إلى منطق وواقع الأمور بصلة، مثل أن إقناع حلفاء النظام، الروس والإيرانيين، كفيل بممارستهم الضغوط اللازمة على النظام لإرغامه على الحل السياسي! ومثل: استمرار النضال السلمي كفيل بإجبار المجتمع الدولي على التدخل وإلزام النظام بتقديم الحلول.

يضعون الخطط والآليات لعملية التفاوض والحكومة الانتقالية الواسعة الصلاحيات، والتي لن يكون القتلة جزءا منها، وللمرحلة الانتقالية وصولا إلى النظام المنشود، وكأنهم اللاعب الوحيد في الساحة، وكأن النظام غير موجود أو مهزوم وما عليه إلا توقيع صك الاستسلام، وكأنهم يقودون الثورة والثوار ويمثلون غالبية الشعب. 
نعم، المقاومة السلمية هي الأرقى، وهي الأقل كلفة، وهي الأفضل بكل المقاييس وفي كل الأزمان وبدون جدال، لكن الواقع يقول أنها لا تكفي أولا، والمحافظة عليها أمر مستحيل ثانيا في ظل فائض العنف المستخدم.
 
وهناك مسألة أخرى أولية لا يمكن تجاهلها، هي أن حمل السلاح ومقاتلة قوات النظام لم يكن قرارا من أحد أو خيارا لأحد، تماما مثلما لم تكن الثورة قرارا من أحد ولا خيارا لأحد، فالأمور تتطور ضمن منطق وظروف ومعطيات تحكم مسارها، ومن الصعب على أحد وقف هذه السيرورة، وهذه السيرورة لا تنتظر رخصة أو تصريحا من أحد لحدوثها، هي تحدث لأنها يجب أن تحدث، وعلى الجميع التعامل معها كأمر واقع، فعنف النظام المفرط والمنفلت والمديد والمستمر دفع باتجاه حمل السلاح من قبل متظاهرين للدفاع عن أنفسهم وأهلهم أولا، ومن قبل عناصر انشقت عن الجيش ثانيا، لأن نبلها وضميرها الحي منعاها من قتل أبناء بلدها، وشكلت ما يسمى بالجيش الحر.. فهل كان بالإمكان منع ذلك؟ وهل كان صحيحا منع ذلك؟ وهل تصح معاداة كل من يحمل السلاح؟ وهل استمرار الندب حول خطورة ومساوئ حمل السلاح يفيد في شيء؟
تعقيدات الواقع وخطورته وتداخلاته واحتمالاته المفتوحة تتطلب العمل على كل المسارات، السلمية والعسكرية، الداخلية والخارجية، للوصول إلى مخرج، وتجعل من التفكير بمسار واحد أوحد لمعالجة الأزمة ينطوي على قدر كبير من السذاجة والسطحية وقصر النظر، وتجعل كل من يفكر أنه يستطيع منفردا أو مع من يشبهونه أن يجد حلا، مخطئ وآثم بحق البلد.

يتطلب الأمر من الجميع أولا الاستسلام لفكرة أن الحل يأتي عبر العمل الجماعي المشترك، والاستسلام لفكرة أن الحوار البناء المصغي بعقول مفتوحة ونفوس متواضعة هو المدخل الوحيد لهذا العمل الجماعي المشترك المثمر.

ويتطلب الأمر ثانيا القبول بالأمر الواقع المفروض، والتعامل معه بحنكة وسياسة لعقلنته ودفعه في الاتجاهات المرغوبة، أو التخفيف من آثاره غير المرغوبة.

ويتطلب الأمر ثالثا العمل على كل المسارات دون استثناء، وفي كل الاتجاهات لإحداث نتائج مؤثرة لصالح ثورة السوريين وتطلعاتهم، فاستبعاد العمل العسكري وتكفيره أراه خطأ فادحا، والصواب هو قبوله وتنظيمه ودعمه ودفعه في الاتجاهات الصحيحة المفيدة، ورفض العمل السياسي أو المبالغة غير المنطقية في شروط قبوله أيضا أراه خطأ فادحا، والصواب هو قبوله والمطالبة به وإفهام الجميع أنه أولوية، شرط الاستعداد الجيد له، والذهاب إليه كفريق واحد وعدم تقديم أي تنازلات تمس بحقوق السوريين وتضحياتهم وتطلعاتهم، وهكذا.

ألا يفترض بنا بعد هذا الكم الهائل من البؤس والخراب الذي حل بنا وبأهلنا وبلدنا أن نعيد النظر في طريقتنا في التفكير؟ وأن نخلع النظارات الملونة عن أعيننا؟ وأن ندرك أن الحقيقة أكبر من أن يراها أحد بمفرده أو يمتلكها أحد بمفرده؟ وأن نمد أيدينا إلى بعض بشيء من التواضع وبشيء من الثقة، لعلنا نفلح مرة واحدة، وفي الوقت الضائع، في القيام بعمل نستحق عليه الاحترام؟

(106)    هل أعجبتك المقالة (102)

د. محمد غريب

2013-09-28

مقال غاية في الأهمية ويجب تفعيله على كل المستويات والدعوة له. وأتساءل هنا ما سطره السيد نادر في هذا المقال يتعارض مع بعض ماقرأته له من قبل. فهل هو من قبيل الشجاعة في تغيير الرأي عند معرفة الصواب؟ إذا كان كذلك فيجب التنويه. أم أنني قد فهمي كان خطأ..


نادر جبلي

2013-09-28

أشكرك جزيل الشكر على اهتمامك ورأيك المحترم، وأنا من الناس الذين لا يترددون في الانحياز إلى الصواب فور تبينه، وأومن أنها ثقافة هامة فيها كل الخير. لكنني بالفعل لا أجد فيما كتبت الآن تعارضا مع ما كتبته سابقا، وسأكون ممتنا لك لو وضحت لي هذا الأمر. مع احترامي وتقديري.... نادر جبلي.


د. محمد غريب

2013-09-29

شكرا لاهتمامك، وشكرا لتقبل النقد، إذ أن ثقافة الحوار والتفاهم هي صمام أماننا الوحيد بعد سقوط النظام غن شاء الله.... قلت في مقالة سابقة "ذكرت في مقالتي السابقة أنه ليس هناك من خدم النظام السوري وأمده بأسباب بقائه وأطال في عمره مثل أعدائه الإسلاميين، واليوم أؤكد ذلك وأضيف إليه أنه ليس هناك من خدم التنظيمات الإسلامية الجهادية التكفيرية وعزز وجودها وأمدها بأسباب البقاء والنمو والاستمرار على الأراضي السورية مثل النظام السوري." والشاهد هنا أنه قد أصبح واضحاً وجلياً أن معظم هذه الفصائل في حقيقتها هي من صنع النظام، وهي ليست إسلامية في حقيقتها، بالرغم من أنه يتم التغرير ببعض الشباب فينضمون عن حسن نية، وفي كلامك تعميم وعدم دقة، فمن يُسمون الإسلاميين المتطرفين هم قلة ولا وجود حقيقي وفاعل لهم في مجتمعنا، وفي المقالة كان الحديث عن جميع الإسلاميين، ومن المعلوم جيداً أن الإسلاميين المعتدلين هم الأغلبية، فإذا كان الحديث بهذا التعميم فنحن نقصي شريحة مهمة من المجتمع، وكان النظام قد غسل أدمغتنا على مدى عقود بأن الإسلاميين هم أعداؤنا. وأكثر من ذلك أن الانشغال بالحديث عنهم فيما أكثر العصابات تطرفاً وإرهاباً في العالم مرتزقة إيران، وشبيحة النظام البائس تقتل وتشرد وتقوم بممارسات إرهابية تسجل في التاريخ، فنحن نصل للتطرف في انتقاد مثل هذه الظاهرة. وكي لا أطيل أنا أتحدث عن هذه النقطة خصوصاً من بين نقاط أخرى، وأرحب بأي نقاش حر في ذلك، ولك جزيل الشكر..


نادر جبلي

2013-09-30

تاريخيا استثمر النظام فزاعة الإخوان المسلمين في وجه الداخل السوري وفي وجه الخارج، وصورهم كمجرمين إرهابيين، وأعطى الانطباع أنهم البديل الوحيد الجاهز في حال غيابه، فأصاب بذلك نجاحا كبيرا مكنه من الاستقرار، ومع بدء الثورة وضع كل ثقله لتصويرها كثورة إسلاميين متطرفين واستطاع فعلا بعنفه المفرط والمديد أن يجذب التنظيمات التكفيرية المتطرفة لمحاربته، فكانت فعلا بوجودها وتصرفاتها الحمقاء حبل النجاة له... فهي وراء تردد الغرب في التدخل، وهي وراء عزوف نسبة هائلة من السوريين عن المشاركة في الثورة، وهي ساعدت النظام على ضمان ولاء معظم أبناء الطائفة العلوية..... صحيح كلامك أن النظام غسل أدمغتنا بشأن الإخوان المسلمين والإسلاميين المتطرفين، وأنا أقول دائما أنها فزاعة اخترعها النظام، ونفخها عشرات الأضعاف، لكنها تعمل وتؤثر على مواقف نسبة كبيرة من السوريين، ويدعم الصورة تصرفاتهم الآن على الأرض التي تخيف الجميع... ولا خلاف على حلفاء النظام لأنهم حلفاءه، ولا داعي لتصنيفهم، إنما المشكلة فيمن هو محسوب على الثورة ولا يفيد إلا النظام أرجو أن أكون قد فهمت تحفظاتك وأجبت عليها..... أجدد شكري واحترامي.


د. محمد غريب

2013-10-01

أعتذر عن تأخري في الرد.... بعد أن توضحت نقاط أكثر في النقاش يبدو أن الخلاف ليس كبيرا هنا، كما يبدو أيضا أنه ليس لدينا تأكيد على كون هؤلاء يؤثرون على "مواقف نسبة كبيرة من السوريين" كما نأمل أن تفقدهم تصرفاتهم الأخيرة، في اعزاز مثلاً، التأييد بين السوريين. إضافة إلى نقطة أخرى وهو أن الغرب لن يتدخل، إذا فعل، إلا لصالحه وعلى الأغلب ضد مصالح أغلبية الشعب السوري، ولا أظن أننا مختلفين في هذا. شكرا لاهتمامك واحترامك للنقد، ومحاولتك أن نصل للصواب في نقاشنا. شكراً مرة أخرى..


kalimet hakk

2013-10-05

مقالة جديرة بالتوقف عندها والتفكير بها ومناقشتها لما تنطوي عليه من محاولة قبول للآخرين والإعتراف بوجودهم رغم حدة الإختلافات وهذه نقطة بدء تحول واضحة لدى الكاتب بعد المواقف السابقة المتشنجة . وكل الأمنيات أن يكون هذا الفكر مدخلاً لبناء مستقبل سوريا والبلدان التي شهدت ما دعي بالربيع العربي . المهم أن يعم هذا الفكر وتقتنع به كل أطياف المعارضة، والموالون ..


kalimet hakk

2013-10-05

لقد لفتني رأي الكاتب في رده على تعليق< الدكتور محمد غريب > حول مبدأ عدم التردد بالإنحياز إلى الصواب وهو مبدأ سامي وأخلاقي ، وهو موقف جريء . إنما في خضم هذه الدوامة العنيفة التي تضرب سوريا والعالم العربي وهجمة المصالح والأطماع اللا أخلاقية عليه، واختلاط مبادئ الثورة للحرية بالمصالح ورغبة السطو على السلطة ، اتجه الكثيرون للإنقلاب على مبادئهم وتوجهاتهم بما يخدم مصالحهم الخاصة تحت شعار جرءة الإنحياز للصواب . والأمثله كثيرة وشاهدة .. لذلك أنا أتوجه للكاتب ولكل من أخذ يتبنى هذا التحول الايجابي من المعارضة بسؤال وهو : لو آن تحولاً مفاجئاً الآن قلب الموازين وأعطاكم الفرصة لإسقاط النظام ومؤيديه وإسقاط الإديولوجيات المناقضة لكم في المعارضة هل ستتمسكون بهذا المبدأ وتعترفون بوجودهم وبقبولهم معكم وتجلسون وتتحاورون معهم بعقول مفتوحة ونفوس متواضعة بعمل جماعي مشترك مثمر أم حينها سيصبح المطلوب أداء مختلفا وطريقة مختلفة في التفكير والمعالجة ؟ ... عندها فقط يمكن تقييم هذا التحول إن كان تحولاً نحو الصواب أم انقلاباً على المبادئ ..


التعليقات (7)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي