وجه لي أحد الشباب الحماصنة عدة أسئلة لأجيبه عليها، لاعتقاده الخاطىء أنني أعرف الإجابات التي تروي تعطشه، أو أنني عشت مرحلة ما قبل البعث بشكل واعي.
سأعرض أسئلة الصديق حسام الحمصي في البداية، ثم أحاول الإجابة عليها، حسب معرفتي، وإجاباتي هي مجرد انطبعات أو خبرات غير مستندة على دراسات، لذا وجب التنبيه.
يسأل الصديق:
١- "قبل ما يجي حزب البعث هل كان الحكم سني بشكل مطلق أو فيه صبغة إسلامية؟، وهل كان المسيحون أو الاقليات بشكل عام مهددين بوجودهن؟"
٢- "ليه في بالثقافة العلوية شي اسمو الخوف من السني ؟ هل متل ما بنسمع إنو كان السني يذل العلوي و يتعامل معه بشكل لا إنساني كعبد مثلا؟"
"هل في أسباب حقيقية وواضحة، لأنو الحقيقة في حقد واضح من جهة العلوية ع السنة وأكيد هالشي إلو أسبابه، يلي بجهلها و يلي سألت عنها الكبار و ماحدا قدر يعطيني جواب مفيد، الكل كان يختصر جوابه: لأنه العلوية فقرا و بس".
3- "شو سبب الخوف المسيحي من تغيير النظام اذا كانوا المسيحية قبل النظام متعايشين وإلهن حقوقهن و مانن مضطهدين؟ وكيف خلقوا رعب لحالهن مانو موجود أو يمكن موجود؟".
وهذه إجاباتي
كان عمري 4 سنوات عندما تطوع والدي في الشرطة، فتركنا القرية وانتقلنا للسكن في المدينة. من العام ١٩٥٤ وحتى عام مغادرتي سوريا ١٩٨٩، كنا نسكن في الأحياء الطرفية من المدن، وهي عادة أحياء الفقراء السنة، ولم يكن والدي يختار هذه الأحياء عن قصد وإنما راتبه كشرطي هو ما كان يتحكم بمكان سكننا ونوع أكلنا ولباسنا، وهكذا أمضيت سنوات طفولتي ومراهقتي، أنا الطفل المسيحي الريفي، في أحياء الفقراء السنة، ولم أسمع يوما إهانة لي لكوني مسيحي، ولم أسمع أن أختي التي كانت تكبرني بعامين، قد تلقت إهانة بسبب دينها أو لباسها، والمرات التي كنت أسمع فيها حكايات عن تعدي المسلمين على المسيحيين كنت أسمعها عندما كنا نزور أقرباء أو أصدقاء والدي، الذين يسكنون في الأحياء المسيحية من المدن، وعند التدقيق في تلك القصص كانوا يقولون أنهم سمعوها بدورهم من آخرين. كنت أستغرب ذلك وأخاف، وأفتش بعد كل زيارة للأقرباء، عن تعديات وقعت على مسيحيين في الأحياء التي نسكنها فلا أعثر على شيء.
أذكر أنني أمضيت العام الدراسي ٦٢-٦٣ في حي ركن الدين-جبل الدمشقي، وكنت كل صباح أذهب إلى فرن الحي للبحث عن الخبز، كان كل الأولاد يجلسون في الفرن، وخاصة في الأيام الباردة، وكان الخباز يعطي الخبز للأطفال كل بدوره، لم يسألني يوما أحد عن ديني، وحتى في عصابات الأحياء التي كنا نشكلها، لم تكن تقام على أساس ديني أو قومي، رغم إننا كنا بين الأكراد، وإنما على أساس مصالح الأطفال.
المرة الأولى التي واجهت فيها سؤالا طائفيا كان عام ٦٥، عندما تقدمت لامتحان القبول في دار المعلمين في حمص، أي بعد وصول البعث للسلطة بعامين ونصف تقريبا، كانت صيغة السوال هي:
١- لنفترض أنك على شاطىء البحر ورأيت شخصين على وشك الغرق، أحدهما مسيحي فرنسي والآخر مسلم عربي، ولا تستطيع إنقاذ إلا واحد منهما فمن تنقذ؟
٢- لنفترض أنك على شاطىء البحر ورأيت شخصين على وشك الغرق، أحدهما مسيحي عربي والآخر مسلم باكستاني، ولا تستطيع إنقاذ إلا واحد منهما، فمن تنقذ؟
هذه الصيغة الرسمية للسؤالين، من قبل اللجان الفاحصة، فيها من الطائفية الكثير رغم التبرير الذي يمكن تقديمه على أن الهدف منها هو كشف الشعور القومي، ولكن الحقيقة التي تكشفت فيما بعد، هي أنه كان المنهج الطائفي الذي اعتمده "البعثيون" لتعميق الشرخ بين مكونات المجتمع السوري وصولا إلى وقتنا الحالي.
أما عن العلويين وخوفهم من السنة وكرههم لهم، ففي جعبتي بعض التجارب والمعلومات غير المؤكدة، ولكنني أرويها للامانة، فقد يكون فيها بعض ما يفيد.
تقع قريتنا في وسط علوي، جنوب مصياف، ولقد رأيت في طفولتي الريفية الفقر الأسود الذي كان يحتل قرانا وسكانها. أذكر أنني أمضيت الصف الخامس الابتدائي في القرية، ورأيت الأطفال العلويين الذين كانوا يأتون حفاة في الشتاء من قراهم إلى مدرسة قريتنا، وفي "شنتاية" بعضهم لا يوجد لقمة من الخبز. لم يكن الفقر حكرا على العلويين، ولكنه كان واضحا بينهم أكثر مما هو في القرى المسيحية المجاورة، ربما بسبب الإقطاع أو طبيعة المناطق الجبلية الوعرة، أو لأسباب أخرى لا أعرفها.
في مرحلتي الحمصية التي استمرت من عام ٦٥ إلى عام هربي عام ٨٩ نحو كندا، كان جل أصدقائي من العلويين، في دار المعلمين كما في الحياة السياسية والثقافية في المدينة، كانت همومنا مشتركة منها الأصل الريفي ومنها الفقر والرغبة في امتلاك المعرفة، ومنها الإيديولوجيات اليسراوية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت. تلك الحياة المشتركة مع العلويين أتاحت لي الفرصة للتعرف عن قرب على بعض المكونات الاقتصادية والثقافية والنفسية للعلويين، أولها الفقر الأسود الذي طبع حياة الأغلبية منهم، والذي استثمره بخبث وذكاء حافظ الأسد، فحولهم إلى وقود لمشروعه السلطوي، والثاني هي روايات "سنين العزلة" التي كان يرويها المعمرون منهم للشباب، والتي تتمحور حول الاضطهاد السني لهم عبر التاريخ، والإهانات التي كات تلحق بهم عندما كان يزورون المدن السنية، وهي روايات يمكن أن تحصل دائما وفي كل المجتمعات المقسومة إلى مجتمعات ريفية ومدينية بغض النظر عن الدين. وثالث الأسباب هو الثقافة الباطنية التي يتلقاها الطفل العلوي أثناء تلقيه لتعاليم الدين والتي تعمق انفصاله عن الآخر وخوفه من المختلف، السني وغير السني. وما زلت أذكر كيف أن أحد الأصدقاء العلويين، وكان قد وصل حديثا إلى حمص للدراسة في جامعتها، قال لي فيما بعد إنه استغرب كيف يجرؤ ابن خالته أن ينام عند مسيحي مثلي.
أما عن موقف أغلب العلويين الآن، ودعمهم لسلطة الأسد القاتلة، فأرى أن الاسباب التي ذكرتها سابقا لم تعد كافية لتفسير هذا الموقف، ولا بد من النظر إلى الموضوع من زاوية أخرى وهي أن هذه الأغلبية قد تحولت، بسبب رغبة الأسد في حماية "مملكته" إلى ما يشبه الطبقة التي ارتبطت مصالحها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية مع مصالح النظام بأشكال متنوعة، ورأت أن شعارات الثورة "السنية" في الحرية والعدالة والكرامة، تهدد مكاسبها وتجلعها في موقع المساواة مع بقية مكونات المجتمع السوري، مغلفة بكل المخاوف والمظلومية التي استحضرها النظام، في أسوأ أشكالها، أثناء مواجهته للثورة.
أما عن موقف المسيحيين، فيجب البحث عن دور رجال الكنيسة السيء وعمالتهم لنظام الأسد، وعن القصص التاريخية التي تم استحضارها وتحريفها وتضخيمها ونشرها في أوساط المسيحيين لإخافتهم من المسلم الذي سيأكلهم في حال وصوله للسلطة، وقد نجحت هذه القصص نسبيا في دفع قسم كبير من المسيحيين للوقوف إلى جانب سلطة الأسد، حتى لو كان ذلك عن غير قناعة عند بعضهم.
أخيرا، صديقي حسام الحمصي، لا يجب أخذ كلامي على أنه حقيقة، إنه يحمل، ككل كلام، جزءا من الحقيقة، أرجو أن تستمر في البحث للحصول على الأجزاء الأخرى الناقصة، متمنيا أن أكون قد لبيت بعض ما ترغب في معرفته، وإلى اللقاء في حمص بعد سقوط الأسد، مذكرا أن الاوطان لا تقوم على الانتقام وإنما على التسامح والعدل، ودمت أخا ومواطنا سوريا.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية