قبل ستة عشر عاماً أو يزيد زرت الشقيقة ليبيا، في ذلك الحين كانت ليبيا تعيش تحت الحصار الأمريكي الغاشم، وكنت كمواطن عربي أحتاج كي أصل إلى ليبيا أن أذهب بجولة تقارب خمسة أضعاف المسافة الفعلية من عمان إلى طرابلس، وكان الدخول إلى ليبيا يستوجب المرور بعدة دول أوروبية على طريقة الراحل نهاد قلعي '' إذا أردنا أن نعرف ما في البرازيل علينا أن نعرف ما في إيطاليا''، لكن هذه المرة كنا إذا أردنا أن نصل إلى ليبيا فلا بد أن نصل إلى مالطا عبر إيطاليا، والغريب والمؤسف والمحزن في هذه الرحلة التي كانت تنقسم بين البر والبحر والجو أن المدخل إلى ليبيا الدولة العربية المسلمة الشقيقة كان يجب أن يتم عبر موانئ مالطا لأن من كان يحاول غير هذه الطريق أو بالأحرى من كان يحاول دخولها عبر الأراضي أو الموانئ العربية كان يجابه بالكثير من التعقيدات والموانع من قبل الأشقاء العرب، فكانت مالطا أسهل السبل، و كانت مالطا، الجزيرة الصغيرة أول من يفتح ذراعيها مرحباً بكل الراغبين الذهاب إلى ليبيا، ليس حباً في ليبيا لكن حفاظاً على مصالحها مع ليبيا وحفظاً لهيبتها كدولة مستقلة، ليست مضطرة للالتزام بقوانين العنجهية الأمريكية، هذا في حين كانت الدول العربية من أكثر المتشددين في هذا الحصار والخائفين من خرقه أو ربما الخائفين على خرقه أيضاً.
وبعد ليبيا جاء دور حصار العراق الذي استمر حتى أصبح اقتصاد العراق دون الحضيض وجاع شعبه ومات أبناؤه حتى وصلت أعداد الوفيات بين أطفال العراق إلى مئة ألف قتيل سنوياً في كل عام من أعوام ذلك الحصار، وكانت الدول العربية أشد الملتزمين به، وآخر من خرقه بعد ان مل احد زعماء اميركا الجنوبية هذه المأساة فطار الى العراق مخترقا الحصار, اما الدول العربية فقد استفحل بها الهوان إلى حد أنها دعت الجيش الأمريكي إلى غزو العراق، وساهمت وسهلت ذلك الغزو، وأظن أن بعضها ما زال ملتزماً بالحصار، خشية من أن تكون قد أساءت فهم الحكومة الأمريكية التي لم تعلن رفع الحصار ''رسمياً'' بعد احتلالها لأرض العراق العربية.
وقبل أسابيع سن الكونغرس الأمريكي قانوناً أمريكياً بحتاً ينص على فرض الحصار على إيران، ورغم أنه قانون أمريكي سنه الجهاز التشريعي الأمريكي، إلا أن العنجهية الأمريكية طالبت بفرضه عالمياً وكأن حكومة الولايات المتحدة هي الحكومة العالمية، وكل أهل الأرض مجرد عبيد وتابعين لسياساتها، ومرة أخرى كان العالم العربي أول من أظهر آيات السمع والطاعة، لكن وعلى حين غرة طارت وزيرة الخارجية السويسرية إلى طهران ووقعت هناك اتفاقاً طويل الأمد مع إيران لاستيراد الغاز الإيراني وضخه إلى سويسرا، وعلى هامش الاتفاق أجرت عدة مباحثات مع عدد من مسؤولي إيران، وطبعاً فقد رفض المارد الأمريكي هذه الخطوة من الجانب السويسري، وشجب واستنكر، لكن سويسرا الدولة المسالمة المحايدة والضعيفة قياساً إلى دول أوروبا الأخرى، وبالتأكيد قياساً إلى الجبروت الأمريكي، رفضت هذا الصلف الأمريكي، وبمنتهى البساطة والمنطقية أجابت على الخزعبلات الأمريكية: '' إننا في سويسرا دولة مستقلة ذات سيادة تحترم قانونها كما تحترم القوانين الدولية لكننا أبداً لسنا مضطرين إلى الالتزام بالقوانين الأمريكية''...
إذن فقوانين الكونغرس الأمريكي لا تسري إلا على التراب الأمريكي والمواطن الأمريكي، فيا ترى لماذا ترتعد فرائص العرب أمامها وتتراكض الدول العربية للالتزام بها قبل أن يفكر حتى المواطن الأمريكي نفسه بأخذها بعين الجد؟، ولماذا خرقت دول أمريكا الجنوبية وسويسرا حصارات أمريكا المتعددة التي لا تفرض إلا على الدول العربية والإسلامية، في حين التزمت به جاراتها من دول عربية وإسلامية. أتراه الالتزام بالشرعية الدولية؟ لكن القوانين الأمريكية ليست شرائع دولية، إذن ربما هو حب أمريكا الشقيقة المسلمة؟، لكن أمريكا ليست شقيقة ولا مسلمة، بل على العكس هي لا تعتدي إلا على أشقائنا العرب والمسلمين، إذن لعله الخوف؟ نعم، هو الخوف، هو الخوف المقترن بإدمان الذل واعتياد الهوان والحاجة المستمرة إلى جرعات جديدة من الصفع على الخد الأيمن، يتلوه الخد الأيسر، ثم ''القفا'' والختام بضربة على الرأس قد تباركها بصقة "فخمة" تغرق الشوارب واللحى..
ترى لو كان اليازجي حياً اليوم أكان قال: ''تنبهوا واستفيقوا أيها العرب''، أم كان وقف في أكبر ميدان من ميادين العرب، ثم أحرق نفسه حياً حتى لا يرى هذا الهوان؟ ولو كان المتنبي حياً ورأى هذا الحال، أكان كفاه قوله '' من يهن يسهل الهوان عليه''، أم تراه كان شُل وعُقد لسانه عجزاً عن وصف هذا الحال؟.
لكنه صدق حياً وميتاً....ما لجرح بميت إيلام..
هنّا حتى أشفق منا الهوان ... حسن بلال التل
نشر في صحيفة اللواء الاردنية
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية