لا شك أن هذا العنوان يستفز موالي النظام الذين لا يجدون في الثورة السورية ما هو مفيد، على الرغم من أنها أطلقت لسانهم ودفعتهم لمتابعة الشؤون السياسية في الحد الأدنى، لكنها لم تغيرهم في تفكيرهم وأخلاقهم ومواقفهم بعد، فهذا رهن بأمور كثيرة، أهمها تغير موازين القوى. لكن هذا العنوان ربما يثير استهجان البعض ممن هم مناصرون أو مندرجون في الثورة، خاصة في ظل الخراب والتدمير اللذين يخيمان على البلد اليوم، وقد يجاهر بعضهم بهواجسه في تمني عدم انطلاقتها.
لعل أهم فضيلة للثورة أنها أعادت الرّوح إلى الشَّعب السوري الذي بدأ معها باسترجاع وعيه وإرادته وثقته بنفسه، ليتحوّل إلى ذات حاضرة وفاعلة بعد زمن طويل على بقائه في ساحة الصمت والتهميش. فمنذ انطلاقتها بدأت معرفة السوريين ببعضهم وبمعاناتهم وآلامهم ومشاكلهم وطبائعهم وأحلامهم، بعد أن كانوا أسرى الجهل والانعزال اللذين خلقهما الاستبداد الطويل.
يُعاب على الثورة أنها خالية من الفكر، وهذا غير صحيح. فهناك إنتاج فكري غزير رافق الثورة وأطلق رؤى جديدة في مقاربة الواقع، لكن الصحيح هو افتقاد الثورة حتى اللحظة إلى قيادة فكرية سياسية، مما كان له أثر سلبي على نموها وتطورها بشكل إيجابي. وربما فضيلتها الفكرية المهمة هي في تعرية التيارات الأيديولوجية وإظهار عقمها وعجزها، وهي المهمة التي حاول في السابق مفكرون كبار، كياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبد الله العروي، القيام بها على مستوى ما كان يسمى زوراً وبهتاناً "النخبة".
لقد أظهرت الثورة السورية هشاشة "الأيديولوجية القومية العربية" ممثلة بالبعث والناصرية، وأبرزت الأرضية المشتركة بينهما فكرياً وسياسياً، والتشابه في الخطاب والأداء السياسي، وانسجامهما في المآل مع نمط الحكم الاستبدادي، وليظهر أيضاً أن الخلاف بين البعث والناصرية لم يكن سوى خلاف على السلطة وليس على نمط الحكم، كما ظهر أن هذه الأيديولوجية لم تفرز إلا خطاباً خشبياً يقوم على عقدة الإهانة المضمرة إزاء الخارج بحكم الهزيمة المزمنة، أما قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والداخل السوري فلم تكن تدرج في الخطاب إلا من باب التزيين وليس القناعة الراسخة.
لقد برز واضحاً أن هذه الأيديولوجية السائدة، بحكم ما فيها من أوهام وأمراض، وما يعشش فيها من استبداد مستحكم وضحالة فكرية، قائمة فحسب إزاء الخارج، ولا تتقن سوى اجترار الأحاديث حول المخاطر الخارجية، أما رجالاتها فهم أشبه بديناصورات لا هي تموت ولا هي قادرة على العيش والتعلم من جديد، بل هم مستعدون إلى تكرار الهزائم إلى ما لا نهاية من دون أن يتأملوا في أنفسهم أو يعيدوا التفكير في مقولاتهم، ولو للحظات.
هزت الثورة القناعات الضمنية الراسخة داخل جميع التيارات. كان المرء يشعر أنه داخل كل ناصري هناك عبد الناصر صغير، ينتظر ليلة الثورة ومغرم بكلمة سرها "نصر"، ليبدأ تغيير العالم على يديه من جديد. وكانت شائعة سكسوكة لينين وطاقيته وصور جيفارا واختزال الماركسية إلى الذوبان في أغاني الشيخ إمام وزياد رحباني، في الوقت الذي تتنازع فيه داخل "الرفيق" هواجس متناقضة بين أحلام البروليتاريا والحياة البرجوازية. إذ أظهرت الثورة تعفن معظم "اليسار" واستغراقه في الأيديولوجية إلى درجة يصعب تمييزه عن الحركات الدينية الأصولية، وتوافقه مع الاستبداد العسكري، لكن السمة الأهم كانت غياب الإنسان عن منظومته القيمية والأخلاقية، حتى غدا يساراً من دون إنسان. كما أظهرت الثورة المقدار الكبير المختزن من مظلومية الإسلام السياسي الذي كان متعجلاً لتصدر المشهد، وقد عبر عن نفسه في الأشكال السياسية التقليدية، ولم يكن لديه رؤية جديدة سوى استثمار التدين الشعبي الطبيعي، وإعادة إنتاج الخطاب الماضوي فحسب، والإشكاليات القديمة نفسها.
وأبرزت الثورة هشاشة كل عمليات التحديث والتطوير التي قام بها النظام "العلماني"، الذي ظهر أنه حكم البلد بطريقة سلفية، وأن "حداثته" كانت زائفة تلامس السطح فحسب، ولم تكن إلا قشوراً سهلة النزع، وليظهر عري "علمانيته" التي لم تكن سوى سوى غطاء هش لطغمة حاكمة ومستعدة للقيام بأي شيء في سبيل البقاء. وأظهرت الثورة أيضاً هزالة "الخطاب الوطني" القائم على التعبئة والتحشيد وعلى تبرير الاستبداد وعلى "السيادة الوطنية" التي لم تكن تعني سوى سيادة الطوارئ والأحكام العرفية. وأصبح الخطاب الوطني المأمول أو الذي يمتلك الصدقية ويلامس وجدان البشر هو ذاك الذي يتوافق مع قيم ومبادئ حقوق الإنسان. فالوطن أساسه المواطنة، والمواطنة تنبني بداهة على الإنسان، والإنسان لا قيمة له من دون حقوقه، فهي جوهره وماهيته وسر وجوده، وفي المركز منها الحق في الحرية والكرامة. بالتالي، فالخطاب الوطني الذي لا ينطلق من هذه البديهيات في مقاربة كافة الأمور هو خطاب أعمى ومشوه ولا يهدف إلا إلى التضليل.
أنجبت الثورة تطوراً سياسياً كبيراً، فقد أصبح هناك عدد من المسائل بديهية بالنسبة للكثير من السوريين، ومنها: عدم تصديق النظام السوري وإعلامه، والتشكيك بكل ما يصدر عنه، عدم تصديق الدول ووزرائها وسفرائها وقادتها، فليس كل ما يقولونه يقصدونه أو ربما يكون لهم مقاصد أخرى، عدم الثقة بالمعارضة، خاصة أصحاب الأصوات العالية والوعود الفارغة، ونزع القدسية عن كل من يظهر في الإعلام، والتشكيك بجميع القنوات الإعلامية، فليس كل ما يصدر عنها حقيقي، مع اختلاف نسبة الكذب بالتأكيد، وعدم الثقة بأصحاب الأيديولوجيات والمعتقدات، لأن كلاً منهم يقدم فهماً وممارسة مختلفين عن الآخر، وعدم تصديق أي شائعة من دون دلائل لكثرة الشائعات التي ظهر كذبها خلال عامين ونصف، و اكتشاف أن الصبر عامل مهم في النجاح، بحكم الفترة الطويلة والمعقدة التي شهدوها منذ آذار 2011، إضافة إلى معرفة بقاع الوطن السوري وطبيعة الناس في كل منطقة وهواجسهم وأحلامهم ومخاوفهم، وتغير معايير الاحترام للأشخاص التي كانت سائدة قبل سنتين ونصف، فضلاً عن فهمهم للمحاور والتحالفات والمصالح الدولية الموجودة وعلاقتها ببلدهم. لقد بات معظم السوريين يعرفون هذه البديهيات، وهذا تقدم سياسي كبير يجعل من الصعوبة خداعهم أو تضليلهم من أي طرف كان.
السوريون اليوم جميعهم يتحدثون في السياسة، وعلى الرغم من فوضى الحوار الحاصل إلا أن ذلك يمكن تفسيره، ويمكن له في المآل أن يثمر تطوراً فكرياً سياسياً. وفي المستوى السياسي حدث تغير كبير في رؤية السوريين لقضايا تعاملوا معها في السابق بشكل بديهي، إذ سقطت مقولات "الممانعة والمقاومة" السائدة، وما عادت تقنع طفلاً، كما أصبحت هناك حاجة كبيرة إلى إعادة تموضع سورية في العلاقات الإقليمية والدولية، وبناء علاقات سورية الخارجية على أسس جديدة. إضافة لذلك، أعادت الثورة طرح كافة القضايا الفكرية الإشكالية، كالعروبة والإسلام، هوية الدولة، العلاقة بين الدين والدولة، إشكالية الداخل والخارج، العلاقة بين القوميات، وإشكالية العلاقة بين العرب والغرب...إلخ، وهي الإشكاليات التي واجهت المنطقة برمتها ولم تجد حلاً مقبولاً لها طوال مائة عام.
هناك ضريبة أكيدة للثورة السورية، وهي واضحة منذ البداية ولا يحتاج اكتشافها إلى ذكاء، خاصة بعد أن ظهر أن النظام غير مستعد أبداً لتغيير سلوكه وتوجهاته. لذلك، ستكون هناك فوضى وتخبط وجرائم، وسيظهر على السطح كل العفن المخبوء، وسيحدث تطرف وتشدد ديني في توجهات قسم من السوريين، وظواهر طائفية عند البعض الآخر، وهذا كله يندرج في إطار فاتورة طويلة سيدفعها السوريون عاجلاً أم آجلاً بحكم حالة العطالة المزمنة في ظل الاستبداد، وهنا يأتي دور المثقفين والسياسيين المحترفين في التخفيف من آلام هذه الضريبة.
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية