تجري في سوريا اليوم أعمق عملية تغيير اجتماعي منذ قرارات الإصلاح الزراعي في خمسينيات و ستينيات القرن العشرين التي قلبت بنية المجتمع السوري يومها رأسا على عقب .. تجري اليوم عملية إعادة توزيع الثروة , و من ثم السلطة ربما , بين الطبقات الاجتماعية , عملية إعادة تشكيل الاصطفاف الاجتماعي و الطبقات الاجتماعية , خاصة الطبقة الحاكمة و النخبة الاجتماعية .. تنقسم النخبة موضوعيا , إلى نخبة حاكمة , و أخرى معارضة , و لا شك أن النخب المعارضة هي دائما حليف "خطر" للجماهير المقموعة , لأنها عادة ما تسعى لاحتلال مكان السادة القدامى في حالة سقوط الأخيرين .. إن تبني الثورة السورية , أو الجماهير السورية الثائرة , خطابا دينيا هو أكثر من مبرر في مواجهة ديكتاتورية ترفع شعارات و تبريرات "علمانية" لاستبدادها , لكن موقف النخبة المعارضة هنا يختلف جذريا في مبرراته و أهدافه عن التوظيف التحرري للفكر الديني من قبل الجماهير السورية الثائرة .. إنه في الواقع جزء من عملية إعادة تشكيل النخبة السورية , الاجتماعية , المالكة , و ربما الحاكمة , و أيضا المثقفة .. ذلك الجزء من الجماهير السورية الثائرة , خاصة "قادة" كتائب و ألوية الجيش الحر و الكتائب التي توصف بالإسلامية و بدرجة أقل بعض قادة الحراك المعارض و السلمي الذين أصبحوا عمليا جزءا من النخبة الاجتماعية , بتبنيهم للإيديولوجيا الدينية لا يعبرون فقط عن طموحهم بقيادة سوريا "الجديدة" , بل إنهم بذلك ينتقون و يشحذون سلاحهم الإيديولوجي لإنجاز هذه المهمة , مهمة السيطرة على الجماهير و تثبيت وضعيتهم الاجتماعية الجديدة في شكل سلطة جديدة .. يمكن القول بأن هذا التبني هو فعل واع لدرجة كبيرة , بمصالحهم و موقعهم الاجتماعي الجديد .. و يصح هذا أيضا على نزوع النخب السورية "العلمانية" المعارضة نحو تطييف خطابها السياسي و الفكري .. المشكلة مع هذا الموقف ليس إيديولوجيا , بل أبعد من ذلك , إنه في إصرار النخبة الجديدة على تحويل القراءة التحررية الشعبية للدين إلى إيديولوجيا كهنوتية جامدة و تنصيب نفسها ككهنوت خاص بتلك الإيديولوجيا – الحقيقة المطلقة .. ليس غريبا إذن أن نجد إقبالا منقطع النظير بين هذه النخبة الجديدة على التعمق في التفاصيل الصغيرة و البعيدة عن الواقع , خاصة واقع الجماهير المقموعة و المهمشة , في الفقه الإسلامي و غيره من العلوم الدينية و تركيزها على النصوص التي تصر على شكل سلطوي هرمي لجماعة المؤمنين , على "ضرورة" و "فضائل" وجود قيادة عليا , أمير , ولي أمر , و على وجوب الطاعة لولاة الأمر مستندة إلى إرث طويل من تاريخ الدول الإسلامية القروسطية و ما أنتجته من فقه سلطاني متخلية بذلك عن كل ما هو تحرري و ثوري في الخطاب المعاصر للإسلام السياسي و الذي أخذه من الفقه الثوري لأول و أهم الثوار في وجه الدولة الإسلامية القروسطية : أي الخوارج و الذي استخدمته هي نفسها ضد النظام القائم و ربما ستستمر باستخدامه بحذر حتى سقوطه النهائي , يبدو كل هذا ضروريا لتأسيس مشروعية الوضعية السياسية و الاجتماعية الجديدة للنخبة الجديدة , و التي تنتظر سقوط ديكتاتورية الأسد لتصبح نهائية و مهيمنة , و لا شك أيضا أن هذه الثنائية ( نظام – نخبة ) تعقد , و ربما تشوه , نضال الجماهير السورية ضد النظام في سبيل حريتها .. خلافا لما قاله تشومسكي من أنه على من في السلطة أن يثبت في كل لحظة ضرورة وجود هذه السلطة و وجوده هو على رأسها , تلجأ النخب إلى خدعة معاكسة , إنها تنسب وضعية مطلقة فوق المجتمع للسلطة , لسلطتها , و تترك لضحاياها الحاليين و اللاحقين أن يبرروا خروجهم عليها دفاعا عن أنفسهم , الفرق هو في الحجج التي تستخدمها النخب لتنسب لنفسها و لسلطتها صفة الإطلاق تلك , النخبة الجديدة تفعل ذلك اليوم أيضا , صحيح أنها تفعل ذلك استنادا إلى إيديولوجيا مختلفة , لكنها تنتهي إلى نفس النتائج التي انتهت إليها كل الأنظمة السابقة
تحولات النخبة ... مازن كم الماز

تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية