أدخل كلمات البحث واضغط على إدخال.

ستكون و ألف تكون .. نرين طلعت حاج محمود

الى اخي الأصغر ..... و إلى كل أترابه, الى الذين هتفوا ليحيوا الانسان الذي مات فينا قبل ولادتهم, هتفوا ليخلقوا لنا وطنا واسع الآفاق بقدر أحلامهم الزاهية, وطن اكتشفوه بأحاسيسهم و لم نكتشفه يوما, وطن بقينا فيه عقودا, محاطين بأسلاكه الشائكة, مغتربين و ميتين و نحن احياء فيه:
-اذكر أني رأيتك في مطلع الربيع الماضي, كنت متهالكا, يتكىء بعضك على بعضك. هالني ما فيك و افزعني, أشرتَ الى آثارهم على جسدك وقلت لي: هذا مافعله بي قبحٌ في روح انسان.
وضعتُ كفي على فمي, صمتُ و غبت بعيدا, لم تعد لدي لغة تربطني بهذا العالم, شعرت اني لا انتمي لهذا العالم.
و انا كنت اعتقد أن النجوم سوف تتحطم وتنهمرعلى الارض منتحرة كالنيازك, وان الجبال ستنهارمن اجل آلامك. كنت اعتقد, وما اسخف اعتقاداتي!.. ان الشمس ستقفل على نفسها باب قلعتها, وسوف تعاقب الارض والسماء والبشر, لأنهم لم يسموا لعمق جراحاتك, وان القمرسوف يتشظى, وسوف ينهارعلى الارض ويتكسر كلوح الزجاج, وان الشهب سوف تتدحرج عند قدميك ولن تعود ابراجها حتى تشفي احزانك.
كنت اعتقد و ما اسخف اعتقاداتي, لكني وضعت يدي على فمي, و صمت و غبت بعيدا, حين لم تعد لدي لغة تربطني بهذا العالم.
و انا سمعتهم.... كانوا يتندرون و يستهزؤون و يقولون: (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ), و شعرت بالحنق, و عضضت على اصابع يدي غضبا و حنقا.
و كان ليلٌ, و كان الظلامُ طاغيا, لا نجوم في السماء, لاضوء لا قمر, لا افق لا جهات, و مضيت في حنقي وفي ألمي, و صوتك في اذني تقول لي (هذا قبح في روح انسان), و انا تلمست الجدران و الارض, و مضيت في سواد الليل في تلك المدينة العديّة المنسية, المدينة الغارقة بالفجائع و الآلآم, و الاصوات تلاحقني (متى هذا الوعد ان كنتم صادقين ), و بكيت, و لم اعرف هل ابكي عليك, ام على كل الناس, ام ابكي زهدا بنفسي, ثم صار الليل عويلا و نحيبا, و جاءت الريح, جاءت كما لم تأتي يوما الى هذا المكان , لقد عشت كل حياتي في هذا المكان, و اعرف كيف تأتيه الريح, لكنها لم تكن كأي زمان, صارت الريح صرصرا, و دفعتني يمينا و دفعتني شمالا, و دفعتني اماما, و وقفت بوجهي و صرخت و فحت و نفخت, ثم التمعت السماء و ضرب البرق, و رأيت كل الآفاق واضحة منبسطة ككف يدي, و ادركت طريقي, و التمع البرق ثانية, فجعل السماء, كل السماء قطعا و أجزاء, و رأيت حتى اصغر الحجارة في طريقي , ثم التمع ثالثة و سمعت صوتا ينادي, التفت لكل الجهات, ولم يكن ثمة جهات, لم يكن هناك يمينا و لا شمالا, لم يكن هناك سماء و لا ارض, لم يكن هناك اعلى و لا اسفل, و جاء الصوت هادئا واضحا: ( بلى قادرين على أن نّسوّي بنانه ), و لم يكن هناك سوى صوت هتافهم و ندائهم و صرخات ألمهم, و صرخت من المنادي و رد الرعد مزمجرا , و صرخت ثانية وثالثة من المنادي , ثم جثوت على ركبتي, و طبعت على الطين الطري بكفي ّ, واشهرت كل اشهادي و قلت إني اؤمن, اؤمن, اؤمن انه الخلاق العظيم, و ان( امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون).
و لكن متى يكون, اتصير أنهار سورية دماء حتى يكون ؟
و مضيت يقودني حدسي, فرأيتكَ في الربيع التالي مضرجا و مكسرا, مهينا مجرجرا, مداسا باقدام السفلة و المجرمين.
و طلعت الشمس الوقحة من مخبئها دون خجل, و عاد القمر الغبي البليد يمشي ببطىء في السماء, و لم يتكسر.
و العاهرون ما زالو يبيعون ارواحهم و احلامهم لتجار النخاسة, و انت وحيدا مداسا, مكسرا و جريحا. هم عاهرون, ان شبعوا لن يلتفتوا اليك و ان جاعوا فسوف يأكلوك, انهم في كل وقت يأكلوك, هم جميعا يأكلوك, فتحريم اللحم البشري اسطورة من الاساطير, كما كل الاساطير, يصدقها الشرفاء, و يمضغها تجار النخاسة مع مقبلات طعامهم.
و انت وحدك, وحدك سوف تصنع ما تريده ان يكون, يوما بيوم سوف تكون و تكون و ألف ألف تكون.

(106)    هل أعجبتك المقالة (108)

ابو نارت

2013-09-16

كلام اقل ما يقال عنه رائع - اسلوب شيق و مشاعر صادقة شكراً.


التعليقات (1)

تعليقات حول الموضوع

لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية
*يستخدم لمنع الارسال الآلي