في غوطة دمشق، نام الطفل وأخته وأمه وابن عمّه وجدّه وصديقه وجاره و..و..و ليصحوا نائمين. بينما يستكمل المجتمع الدولي غوصه في وحل متتالية الأرقام، وجدلية من ضَرب ومن ضُرب. والنتيجة، تمّت عملية إضافة صفر جديد إلى روتين عداد الموت السوري. لو أمعنا النظر قليلاً في ردود الأفعال العربية والدولية، بعد المجزرة المروعة التي شهدتها الغوطتان الشرقية والغربية لمدينة دمشق في الحادي والعشرين من شهر آب/أغسطس المنصرم، والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 1500 شهيد، لوجدناها لا تختلف كثيرا، من حيث المبدأ، عن تلك التي تلت معظم الأحداث التي غطت المشهد السوري طيلة أكثر من عامين ونصف منذ اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس عام 2011. ويكمن الفرق ما بين ما تلا مجزرة الغوطة وما تلا سابقاتها من ردود دولية، في قيام المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميريكية، بعقد مؤتمرات وإطلاق تصريحات إعلامية إلى جانب حراك ولقاءات دبلوماسية بشكل أوسع؛ اعتمادا على حيلة (الاسفنج) التقليدية؛ لكن، بحجم أكبر، وأكثر قدرة على الامتصاص لتتلاءم وحجم الصدمة الناتجة عنها؛ والتي تمثلت في إعلان كل من الولايات المتحدة وحلفائها في بريطانيا وفرنسا نيتهم القيام بضربة عسكرية ردّاً على استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً.
ها قد انقضى أسبوعان من التذبذب والتباين في الآراء والطروحات التي تلت الإعلان عن الضربة العسكرية؛ وما تبعها من حملات إعلامية ضخمة تحدثت عن تحريك سفن وغواصات حربية ووصول حاملات طائرات أمريكية إلى منطقة شرق المتوسط. فبدأت عملية حبس الأنفاس، وبدا للعالم أجمع أن الضربة ستبدأ خلال ساعات قليلة لا أكثر. قبل الانتقال إلى عملية التمييع الروتينية للقضية الأساسية (مجزرة الغوطة) على مراحل، كما يلي: - ما لبثت بريطانيا أن بثت جلسة مباشرة لمجلس العموم البريطاني للتصويت على مشروع قرار تنفيذ الضربة، وجاءت أغلبية الأصوات رافضة للقرار.
- وأيضاً، إعلان فرنسا جاهزيتها للمشاركة في أي حملة عسكرية ضد سوريا، قبل أن تنخفض النبرة وإعلانها عدم القيام بأي عمل عسكري بشكل منفرد.
- عزم أوباما على تنفيذ الضربة، ومن ثم عودته إلى دائرة التردد وتراجعه بحجة انتظاره لموافقة مجلس الكونغرس – والذي يقضي أعضاؤه إجازاتهم البرلمانية- بينما اتخذ أوباما قرار التدخل العسكري في ليبيا ضد نظام العقيد معمر القذافي عام 2011، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة دون الرجوع إلى الكونغرس.
- وأخيراً وليس آخراً، حالة التخبط والتناقض في مواقف الساسة الرّوس، والتي تراوحت ما بين القول بأنهم لن يدخلوا الحرب، ولن يخوضوها إلى جانب حليفهم الأسد، وما بين فكرة اللجوء إلى مجلس الأمن والتلويح باستخدام الفيتو مجدداً في في حال تم طرح مشروع بتوجيه ضربة عسكرية، وصولاً إلى تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن موسكو ستواصل دعم دمشق بنفس المستويات الحالية في حالة التدخل العسكري الخارجي. وهكذا، انتقل الجدل القائم حول مَن الذي وراء ضرب الكيماوي، إلى التساؤل فيما إذا كانت الولايات المتحدة ستنفذ الضربة العسكرية أم لا، ومتى ستقوم بذلك. وبالتالي، إعطاء فرصة جديدة للنظام السوري ولآلته العسكرية التي تحصد يومياً ما معدله 156 شخصاً. فما الذي حدث، ويحدث؟! الجواب يُختصر فيما شهدته قمة العشرين التي اختتمت أعمالها مؤخراً في مدينة سان بطرسبورغ الروسية، إذ أعادتنا إلى نقطة البداية، لا سيما في مشهد الانقسام الوهمي القائم حيال الأزمة السورية. وكأنّ العالم بأسره يمارس لعبة شدّ الحبل، بينما تبدو سوريا وشعبها ذلك الجزء من الحبل الآخذ بالتفسخ رويداً رويداً. وبالعودة قليلاً إلى الوراء، وتتبع مجريات الأحداث في سوريا وتبعاتها على الساحة العربية والإقليمية والدولية، تتجلى المنهجية المرسومة بدقة في التعاطي مع الأزمة السورية، والتي تهدف إلى تدمير سوريا اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، عبر اتباع وسائل قذرة لم تعد تخفَ على أحد. بدءاً من التغاضي، ومنذ البداية، عن الأعمال الوحشية لنظام الأسد، ما أدى بالنتيجة إلى لجوء الناس إلى حمل السلاح للدفاع المشروع عن النفس، ما فتح الباب على مصراعيه أمام تدفق السلاح والمقاتلين من كل حدب وصوب. ومن ثم الانتقال إلى التذرع بوجود جماعات إرهابية متطرفة في سوريا. وأيضاً، تعيين مبعوثين دوليين (كعنان ومن ثم الأخضر الابراهيمي)، وتشكيل لجان لتقصي الحقائق. فبدت كل منها وكأن مهمتها هو التحقق من جاهزية الفنادق لاستقبال اللجان القادمة، في حين أنّ الأزمة السورية أحالت سوريا ساحة مفتوحة لاستقطاب معظم استخبارات دول العالم، ما مكنها من مراقبة مجريات الأحداث عن كثب، عدا عن الأقمار الصناعية التي ترصد كل شاردة وواردة في البلاد. وبالتالي، يلغي الحاجة إلى تلك البعثات واللجان. ناهيك عن الازدواجية الواضحة في التعاطي مع ثورات الربيع العربي، والانحياز للمصالح على حساب القيم والأخلاق عبر استخدام الذرائع والحجج والواهية. كوجود انقسام في صفوف المعارضة السورية، ومن ثم الحديث عن انقسام حاد في مجلس الأمن والذي توّج بالفيتو الروسي والصيني؛ إذْ تمّ استخدامه ثلاث مرات متتالية في أي قرار ضد نظام بشار الأسد، في حين أنّ روسيا لوحت باستخدامه قبيل التدخل العسكري في ليبيا يوم السابع من آذار/مارس2011 . إلا أنَ تغليب المصالح، والمتمثلة بجعل سوريا سوقاً كبيراً لتجارة السلاح، جعل من روسيا أشبه ما تكون بفتاة الهوى، تُختصر بعبارة (أرفع ساقي لمن يدفع أكثر...!). بالإضافة إلى النهج الإعلامي المغرض، وأمثلته كثيرة. منها التدرج بتشويه اسم (الثورة السورية) عبر إطلاق تسميات مشبوهة بدءًا من (الأزمة السورية) وانتهاء بـ(الحرب الأهلية في سوريا). والتحول من ذكر أسماء الشهداء إلى إحصائهم أرقاماً ما جعل الأمر يصبح اعتياداً. وطبعا، انعدام الشفافية في عرض الحقائق بإضفاء جو ضبابي عبر تبادل الاتهامات إزاء كل حدث، للوصول إلى تحييده والتركيز على أمور ثانوية. مثلاً، لا أحد يعلم حتى كتابة هذه السطور إلى ما ستؤول إليه الأمور، وإذا ما كانت هناك ضربة أم لا، وإن حصلت؛ هل ستكون مؤثرة في مجرى الأحداث. دخل قادة مجموعة العشرين لعقد اجتماعاتهم، في اليوم الذي دخلت فيه الثورة السورية يومها التسعمائة. وخرجوا منها كما دخلوها بخفي حنين. إلا أنني أتمنى أن تكون القمة قد نجحت في محاولة رأب الصدع بين الرئيسين الأمريكي والروسي إثر قيام الأخير بحذف أوباما من قائمة أصدقائه على "الفيس بوك"، و ردّ أوباما بحذفه من قائمة المتابعين له على "تويتر"، إذ أخشى ما أخشاه، أن يتم استخدام ما حصل كذريعة جديدة تقف حائلاً دون الوصول إلى حل ينهي حالة الموت اليومي في سوريا.
نور حميد شعبان مشاركة لــ"زمان الوصل"
تعليقات حول الموضوع
لإرسال تعليق,الرجاء تعبئة الحقول التالية